ما كرسته الطبيعة من تباعد بين الضفتين الشمالية والجنوبية للبحر المتوسط، في طريقه لأن يزيد اتساعاً على الصعيد السياسي، أقله لان العلاقة بين المغرب وإسبانيا مرشحة لدخول منطقة المحظور. لم يكن مستبعداً دخول هذا النفق عبر بوابتي المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية. ففي مقابل ارتفاع المطالب المغربية لجهة فتح حوار حول مستقبل السيادة على الإقليمين، كانت الردود الإسبانية تزيد تشدداً، مع فارق في النبرات بين الحزب الحاكم والمعارضة. غير ان المفاجأة جاءت من الجنوب. وبدا ان كل العقود التي مرت على جلاء القوات والإدارة الإسبانية من الساقية الحمراء ووادي الذهب في مطلع عام 1976، لم تفعل شيئاً أكثر من نبش الذاكرة. لعل الأطراف التي تحن الى عودة سنوات المواجهة بين البلدين الجارين حول الصحراء، ستكون في اسبانيا أكثر سعادة إزاء المأزق الراهن. وكأن الجنرال فرانكو لا زال يفرض قبضته على مملكة خوان كارلوس في غفلة من الزمن. تحقق ما كان يخشاه الجميع من ان الربط بين الصحراء وملف المدينتين المحتلتين شمال المغرب اصبح قائماً بقوة الأشياء. وفيما كان الإسبان يتوقعون ان الرهان على استمرار قضية الصحراء سيضعف المطالب المغربية في السيادة على المدينتين أو يرجئها لفترة أطول، بدا الآن ان الضغوط التي تمارس جنوباً قد تجد لها متنفساً للانفجار شمالاً. ليس هذا كل ما يرشح به إناء العلاقات المغربية الإسبانية، فثمة ملفات كانت تنطبع بوفاق سياسي شامل، باتت عرضة لمعاودة النظر، أكان ذلك على صعيد التعاطي مع الهجرة غير الشرعية والحرب على الإرهاب والتصدي لتجارة المخردات، أو على صعيد الاتفاقات التي تطاول الصيد الساحلي ومجالات الاستثمارات وتمركز النفوذ اللغوي لشبه الجزيرة الإيبيرية. كان المغاربة يعيبون على جيرانهم انهم يستخدمون القضايا المغربية في تصفية حسابات داخلية ذات ابعاد انتخابية. ولم يعد اليوم في إمكانهم إلغاء هذه المعادلة التي تغلغلت في المشاعر الإسبانية، وزادت حدة عبر مزايدات اعادت ملف الصحراء الى الواجهة، الى درجة ان بعض الأوساط المتشددة باتت تصف الإقليم بأنه «إسباني» وأن لمدريد مسؤولية تاريخية تجاه السكان الصحراويين. لم يحدث على امتداد التجارب الإنسانية ان اتسمت علاقة مستعمر سابق بمراكز نفوذه القديمة بمثل هذا القدر من الشحن العاطفي، غير ان ذلك لا يزيد عن ترجمة مظاهر الحنين الى الماضي، وبالقدر الذي لم تبتلع فيه إسبانيا غصة الانسحاب من الصحراء بالقدر الذي تسعى اليوم الى الضغط اكثر من اجل عدم فتح ملف سبتة ومليلية. هناك من وجهة نظر إسبانيا طريق واحدة، تكمن في الإبقاء على قضية الصحراء من دون حل. بل يجوز الاعتقاد بأن تأزيم الأوضاع أقرب الى المنطق الإسباني من اي توجه لنزع فتيل التوتر. فإلى وقت قريب كانت الأنظار تتجه صوب مدريد التي تحولت الى محطة بارزة في كل تحركات الموفد الدولي كريستوفر روس. وساد رهان بأن «الحل الكبير» الذي لوح به رئيس الوزراء الإسباني ثاباتيرو، من اجل عقد قمة في حضور بلاده والمغرب والجزائر وفرنسا والولايات المتحدة في إمكانه ان يحقق اختراقاً كبيراً، لولا ان الصراعات الانتخابية في إسبانيا عصفت بهذه التمنيات. حكومة ثاباتيرو تقر بأن العلاقات مع الرباط ذات أبعاد استراتيجية، والمغرب من جهته ما فتئ يؤكد ان لا بديل من التفاهم والتعايش. غير ان الشارع الإسباني والمغربي يكاد يسحب البساط من تحت الأقدام نتيجة تفاعل الأحداث. انه فصل جديد في المواجهة بات يقفز على القنوات الرسمية ويستقر بين ثنايا الانفعال. فالبرلمان المغربي يرد على نظيره الإسباني بلغة الشجب والاستنكار. والتظاهرات المضادة في مدريد والدار البيضاء تحولت الى اسلوب احتجاج عارم. الأكيد ان الإسبان يدركون دلالات قرار اتخذته بلدية بني انصار عند مداخل مليلية لناحية رفض تزويد المدينةالمحتلة بالماء، تماماً كما ان المغاربة يدركون معنى دفع البرلمان الأوروبي الى التضييق عليهم. والغائب في كل ذلك هو الفرصة التي يقدر البلدان الصديقان على التقاطها في زحمة الاستسلام للمشاعر. من قال ان المواجهة مع إسبانيا حول الصحراء انتهت في مثل هذا الوقت من عام 1975؟