ما كادت الأضواء تنحسر عن حفل أوسكار 2018، حتى علا صوت المخرج الإنكليزي آندي سيركس، بما يشبه التنديد بما سمّاه تجاهلاً من جانب «الأكاديمية الأميركية للفنون» لتقنية «التقاط الحركة» («موشن كابتشر» Motion Capture) وممثليها ومخرجيها. ويعرف الجمهور سيركس جيداً، من دون رؤية وجهه فعليّاً، ولا حتى جسده! إنه هو بطل مجموعتي أفلام «ملك الخواتم»، و «كوكب القردة»، بل أدى في المجموعة الأخيرة دور القرد- القائد «قيصر»، وهو شهير تماماً. وأشار سيركس إلى التعويض الجزئي الذي حازت عليه تقنية «التقاط الحركة» عبر فوز الجزء الثالث من «كوكب القردة» بأوسكار عن المؤثرات البصرية فيه. ولم يفت سيركس الإشارة إلى أنّ الفيلم الذي حصد مجموعة كبيرة من أوسكارات 2018، هو فيلم «شكل الماء» (إخراج: غيليرمو ديل تورو)، إنما اعتمد على تقنية «التقاط الحركة»، خصوصاً في تقديم الشخصية الرئيسية فيه، هو كائن خيالي- مائي يتبدى بشكل إنساني من دون أن يكون بشرياً. وأدى دوره ببراعة (ومن دون أن يرى الجمهور وجهه ولا جسده) عبر تقنية «التقاط الحركة»، الممثل الأميركي دوغ جونز. وقبل احتجاج سيركس، لفت المخرج العبقري ستيفن سبيلبرغ أنظار صناع السينما وهواتها إلى الأهمية المتصاعدة لتقنية «التقاط الحركة». إذ أوضح أنه قضى قرابة 16 شهراً في دراستها، قبل أن يوظفها في صنع فيلمه الطفولي الحنون «العملاق الضخم الودود» The Big Friendly Giant، الذي صنعت تلك التقنية شخصية العملاق الرئيسية فيه، وأدّاها الممثل الإنكليزي المتمرس مارك ريلانس. لم يفز ريلانس بأوسكار عن دوره في «العملاق...»، بل نالها في السنة التي سبقها (2015) عن فيلم من إخراج سبيلبرغ، هو «جسر الجواسيس». ويطلق مصطلح «التقاط» بصورة شبه مجازية على نوع حديث من الكاميرات الرقمية باتت أنواعها المتطورة تصنع أفلاماً يصعب تصنيفها بسهولها، لكنها اجتذبت أعين المشاهدين، وليس «آفتار» و «صعود كوكب القردة» و «هوبيت» سوى بعض نماذجها، مع الإشارة إلى أن تلك التقنية، تطورت بين فيلم وآخر، بل لا تزال تتطوّر. وعلى رغم الجدّة الضخمة التي استطاعت تحقيقها في تطوّرها المتواصل، إلا أن أمرها ليس جديداً، بل ابتدأ منذ أول أفلام الرسوم المتحركة مع «القارب ويلي» للمخرج المدهش والت ديزني، الذي قدّم فيه شخصية «ميكي ماوس» الشهيرة. ما هي الفرجة المدهشة في الرسوم المتحركة؟ إنها أشرطة من دون ممثلات ولا ممثلين. تصنع الصور بفعل التوهيم البصري المحض. إذ ترسم الشخصيات ثم تجعل صورها تتوالى بسرعة كبيرة، ما يعطي انطباعاً أنها تتحرك. الأنسنة بوصفها همَّاً بصرياً ما الذي يشغل بال صُنّاع الرسوم المتحرّكة دوماً؟ ضمن أشياء كثيرة، برز مسألة مهمة: أنسنة الشخصيات، خصوصاً تعبيرات الوجه وحركات الجسم. إذا خاض القط «توم» مواجهة مؤلمة مع الفأر «جيري»، لا بد أن يظهر عليهما ملامح الغضب والسخرية والألم والاندهاش، إضافة الى ضرورة تحرك أصابعهما وأيديهما وأرجلهما بما يتفق مع سيناريو الشريط. لا أحد يمثّل في الرسوم المتحرّكة. توجّب على صُنّاع الرسوم انتظار بداية عصر الكومبيوتر كي يجعلوا من هذا «السر- المعلن» موضوعاً لأفلامهم، عبر فيلم ك «من أوقع بالأرنب روجر». في ذلك الفيلم، لم يؤدّ أي ممثل دور الأرنب، بل مجرد رسوم، تولت تقنيات مبكرة في المحاكاة الافتراضية للكومبيوتر، حينها، تحويلها الى ما يشبه المجسّم المرسوم عن ذلك الأرنب. لنشدد ثانية، تأتي ملامح الأرنب بتعبيراتها كافة من خيال الرسّامين، وكذلك الحال بالنسبة إلى حركات الجسم وأوضاعها كلها. ليس المجال لرصد المناحي المتنوّعة لحضور تقنيات الكومبيوتر الرقمية في الفن السينمائي، بل لتركيز الضوء على هذه التقنية التي أدت الى ظهور نوع مبتكر من الأفلام في هوليوود. لنقل إن الأمر يتعلّق بشخصية الجنّي «غوللوم» الذي ظهر في دور العميل المزدوج في «ملك الخواتم»، ثم استعاده المخرج مُجدداً في فيلم «هوبيت». من السهل صنع الشخصية على الكومبيوتر، لكن كيف يمكن أن تُعطى الملامح الإنسانية المتغيّرة باستمرار؟ كيف يمكن الوصول الى تلك القفزات الانسيابية، والنظرات الحادّة، وتعبيرات الوجه المتلوّنة بالترافق مع الحوار؟ كيف يكون مستطاعاً رسم ضحكة على شخصية رقمية افتراضية، تكون في وضعية المشي غيرها عند القفز على صخرة في وضعية الانثناء؟ للتوصّل إلى هذه الأمور كلّها، جيء بالممثل آندي سيركس، وأُلبِس بذلة من ألياف مُقوّاة بمطاط اصطناعي. وثبّتت على مساحتها، خصوصاً في النقاط التي تبرز قسماتها، مجسّات تعطي ضوءاً بالأشعة تحت الحمراء، وهي مزوّدة ببطاريات من نوع «ليد» التي تؤمّن لها أن تبث الأشعة باستمرار. وتتابع كاميرا التصوير تلك النقاط، التي ترسم الخطوط بينها الهيكل العام لجسم «غوللوم» وكذلك حركاته التي يؤديها الممثل، ثم يُسقطها الكومبيوتر على شخصية افتراضية ل»غوللوم». نموذج آخر عن الواقع - الفائق تشمل تلك البذلة خوذة للرأس وزنها 700 غراماً، تبثّ ضوءاً من نوع خاص، لا يرى بالعين المُجرّدة. ونثرت على وجه الممثل مجموعة كبيرة من النقاط الصغيرة المتقاربة، التي تتوهج بفضل الضوء الآتي من الخوذة. وتتضمّن هذه الخوذة كاميرا رقمية لاسلكية صغيرة، تتابع تفاصيل النقاط المضيئة وحركاتها، ما يعني أنها تلتقط أدق تفاصيل ملامح الوجه وتعبيراته، خصوصاً العين. وتبث الصور الى كومبيوتر التصوير الذي «يُركّب» هذه الملامح على الصورة الافتراضية للجنيّ «غوللوم». وبقول آخر، يتحرّك الممثل وينفعل ويؤدي، كي يعطي صورته وحركاته وأداءه إلى الشخصية الافتراضية التي يصنعها الكومبيوتر كليّاً. ويعني ذلك أن الشخصية التي تظهر على الشاشة، هي مزيج من الواقعي (الممثل) والرسم الذي صنعه الكومبيوتر. ما نراه لم يعد واقعيّاً تماماً، كما أنه ليس محض رسوم يصنعها ويحركها الكومبيوتر. ولهذا السبب أيضاً، تُسمّى هذه التقنيّة أحياناً «التقاط الأداء رقمياً» Performance Capture. اعتمد فيلم «هوبيت» على تلك التقنيّة التي ابتكرتها شركة «ويتا ديجيتال» (متخصّصة في المؤثّرات البصريّة، ومقرّها بلدة جاكسون في نيوزيلندا) التي يشرف عليها جوي ليتري. ما رأيناه في فيلم «هوبيت»، وما سبق ان شاهدناه في «آفاتار» و «صعود كوكب القردة»، هو مزيج الاثنين معاً، بالأحرى هو «واقع فائق» Hyper Reality بتعبير شهير للمفكر الفرنسي جون بودريار. وتزيد الأمور إبهاراً، عندما يُقدّم تمثيل شخصيات «الواقع الافتراضي» عبر العرض البصري الثلاثي الأبعاد. الأرجح أن تقنية «التقاط الحركة رقمياً» (يُشار إليها أحياناً بلفظ مختصر هو «كاب- مو» Cap- mo، أدخلت الفن السابع الى تاريخ معاصر و «فائق» التعقيد أيضاً!