بينما تستقطب فلسطين ذروة التعاطف، بعد إعلان الولاياتالمتحدة عزمها على نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، تأتي مسرحية «بيلاطس البنطي» للمخرج اللبناني طلال درجاني، لتحاكي الواقع الفلسطيني والعربي الذي يجمع متناقضين: الإجماع على محورية قضية فلسطين والاستسلام للواقع والشلل التام حياله. المسرحية المأخوذة من بعض مفاصل رواية «المعلم ومارغريتا» للكاتب الروسي العالمي ميخائيل بولغاكوف، تعكس ما هو أبعد من جغرافيتها، لكونها ترمز إلى كل حاكم ظالم ومتواطئ مع مصالحه على حساب فرد مسحوق. تكمن قوّة «بيلاطس البنطي» في استنادها إلى نص أدبي تراجيدي، مدعوم بإخراج ذكي متناغم مع السينوغرافيا ذات الدلالات الرمزية لموطن المسيح الذي هو فلسطين وأجواء العنف المستمر منذ صلبه، والأداء التمثيلي الحرفيّ الذي يذكرنا بالمسرح الروسي الكلاسيكي. بيلاطس البنطي الذي يؤدي دوره في المسرحية الممثل والمغني خالد العبدالله بحرفية عالية، كان الوالي الروماني ل «أيوديا» أو اليهودية حيث تجري أحداث المسرحية. وهو يمثّل رمز السلطة السياسية المتنازعة مع نفسها ومع العصبية الدينية المتمثّلة بمجمع الكهنة اليهود الذين طالبوا بصلب المسيح والقضاء على دعواته للمحبة والسلام. على الخشبة ينجح خالد العبدالله بنقل التخبط الذي كان يعانيه بيلاطس البنطي والازدواجية في شخصيته وفي مواقفه حيال صلب المسيح من خلال أداء مرن ومتين في الوقت نفسه. فتارة يتبجّح كمارد رومانيّ طويل القامة، جبار، ظالم، عنيف، وتارة يبدو مهزوماً تائهاً كطفل أضاع أمه في البراري. فآهات خالد العبدالله تطرق صميم الوجع من دون موسيقى ومن دون كلام. وأعطى العبدالله النص الأدبي المعقّد وجهاً تمثيلياً جديداً لم نألفه من قبل. ولا ننسى أن بيلاطس أصدر حكمه بصلب المسيح ليس عن اقتناع بذنبه، بل كما هو معروف في الأناجيل خوفاً من اليهود الذين هددوا برفع الأمر إلى الأمبراطور واتهام بيلاطس بالخيانة بسبب تبرئته المسيح الذي صرح بأنه ملك وهي تهمة سياسية خطرة تحت حكم الرومان وهو الذي قال جملته الشهيرة عندما سلم يسوع الى اليهود غاسلاً يديه: إنني بريء من دم هذا الصدّيق. أمضى درجاني خمس سنوات في الإعداد الكتابي للمسرحية، وثمانية شهور من التدريب مع الممثلين بمساعدة مساعدته في الإخراج ماريا كريستي باخوس، فأخرج عملاً سياسياً تراجيدياً بامتياز يضيء على مسألة صلب المسيح كفعل حياة وصمود. فالمسيح الذي يؤدي دوره الممثل ماجد زغيب تأدية متماسكة وصلبة ومن دون أن ينطق بكلمة واحدة، هو رجل صامت خاضع مسلّم بقضائه وقدره. نشعر بآلامه من خلال عيني زغيب وآهاته وأفعاله الدرامية. جسد الممثل هنا هو النص والعذاب والضمير والصوت والصورة. دور محوريّ في المسرحية، أراده درجاني أن يمثّل الشعب الفلسطيني من حيث الفعل الاجتماعي والإنساني، شعب يعرف كل شيء وشاهد على عذابات دهر لكنه صامت، شعب مظلوم ويعي ذلك لكن ليس بيده حيلة حين يتحالف العالم ضده. شعب أراد أن يفدي العالم بنفسه ويكون رمزاً للسلام وقد جعله الطغاة ينزف أنهاراً من الدماء المهدورة ظلماً على يد العصبيات ذاتها والتسلط عينه. شعب لا تزال عذاباته تتناسل في ظل وطأة الاحتلال وقسوة التمييز. على خشبة المركز الثقافي الروسي في بيروت، تتدلى سلاسل من حديد على أرض مفروشة بالشوك وبقع الدم، وفي صدارتها طاولة الحاكم الظالم التي تتحول لاحقاً صليباً ضخماً يعلّق عليه المسيح الملطّخة أعضاء جسده بالدم. وعلى الخشبة نفسها يصرخ متّى تلميذ المسيح الذي يجسد دوره هشام أبو سليمان في شكل لافت ومؤثّر، مستغيثاً طالباً من الله أن يعجّل في موت المسيح ويخلّصه من آلامه وعذاباته. دور متّى محوريّ في المسرحية المستمر عرضها حتى 8 نيسان (أبريل)، ولا يقل أهمية عن دور بيلاطس. فهو أبكى بعض الحاضرين بصوته المكسور والمتألم، وأدائه الحقيقي المركّب. فهو يمثل بطريقة رمزية أمهات الشهداء والمعتقلين في فلسطينالمحتلة اللواتي يستنجدن بالله ليخلص أولادهن من ظلم الإسرائيليين. ومن منظار أوسع يمثلّ متى في مسرحية «بيلاطس البنطي»، كل معذَّب في الأرض ينشد الخلاص عبر التخلص من الحياة. ويشرح درجاني البروفيسور في التمثيل والإخراج وصاحب مسرحيات: «تلميذ الشيطان» و «الرغيف» و «حلم رجل مضحك» وغيرها، أنه اختار هذا النص تحديداً «لأنه عالمي ويتكلم بلغة إنسانية انطلاقاً من الحدث في منطقتنا». وأشار إلى أنه «انطلق من رؤية الكاتب وفكرته للنص وترجمت رؤيتي الإخراجية ضد الحرب والظلم». وبالنسبة إلى التقنيات التي عمل عليها مع الممثلين الذين فاجأوا الحضور بأدائهم، قال درجاني: «اعتمدت منهجية إعداد الممثل انطلاقاً من رؤية ستانيسلافسكي وميرخولد التي ترتكز على الواقعية الفنية والأسلبة في تركيب حركة الجسد من خلال الفعل والحدث». خصائص الإخراج تجلت في سرد أدبي لهذا الكمّ من العنف والقسوة والتراجيديا على لسان بيلاطس البنطي ومتّى تلميذ المسيح، وعلى جسد المسيح نفسه، من دون أي فعل عنفي مباشر. فأتى وقع الأحداث مكثّفاً وعارماً بالواقعية، خصوصاً من الناحية المشهدية البصرية التي زادت وقعها موسيقى «Marche Slave» لتشايكوفسكي في الخلفية. ولكن كان يمكن إنزال النص من عليائه الأدبية ليتحرّر من نخبويته ويقترب أكثر من اللغة المسرحية السلسة.