كثيراً ما نُظر إلى مكوِّنات المجتمع السوري على اعتبارها لوحةً فسيفسائية عُرفت بتلوناتها الإثنية والدينية والمذهبية. وعلى رغم الفرح بتلّون هذه المكونات وجماليته، ظلّ الخوف على تمازجها قائماً ومشروعاً، في ظل نظامٍ يحتكر السياسة ويؤمم البدائل! وفي مقابل هذه اللوحة في حقل الاجتماع السوري، كان حقل السياسة أسير الظلال بعيداً عن التلون. فقد اتسم، قبل انطلاق الحراك الشعبي، بأنه حقل ذو بعد واحد: هيمنة السلطة على الدولة، وهذا ما يعني أن الطرف السياسي الفاعل هو النظام القائم، فيما الطرف السياسي الخامل هو المعارضة. والمعادلة السياسية تقوم على ردات فعل المعارضة السرية (أي المحصورة ضمن تنظيماتها، من دون أن تجد قنوات لها في الشارع) تجاه أي فعل يقوم به النظام. ويشكّل الشعب في هذا الحقل السياسي الثالث المُغفل! فالطرف الأول لا يراه، والثاني لا يستطيع الوصول إليه! الآن ينتفض الثالث المغفل ليؤكد حضوره الموؤود، وليصحح العلاقة الشاذة القائمة على الإقصاء، فيصبح العنصر الفاعل الذي يتحكم بمسارات الفعل السياسي، ناقلاً فسيفساءه إلى الحقل السياسي، أي بعد أن كانت الفسيفساء تشكل الحقل الاجتماعي، نراها الآن تنتقل إلى الحقل السياسي لتلوّن بُعده الوحيد. ذلك أن التصدّع الذي أنزله الشارع السوري بمقولة الهيمنة ساهم، وبشكل كبير، في تفلّت عناصر الفعل السياسية الخاملة من المسار الواحد، فالمعارضة الداخلية، التي عانت الكثير من القمع، لا تزال تعيش الدهشة من الواقع الذي قدّم أكثر مما تحلم به، لدرجة أن المعارضة الداخلية لم تقم إلى الآن بخطوة عملية لتشكيل ناظمٍ للمجتمع المتعطش إلى بروز كيان سياسي يثق به، ويلبي مواقفه، بينما تُسارع المعارضة الخارجية إلى عقد مؤتمرات واجتماعات في الخارج من دون أن تعطي لحضور الداخل الثقل الكافي، الأمر الذي جعل الحياد حيالها الموقف الأقل سوءاً. وإذا ما علمنا أن هذه النتيجة غير المُرْضِية مترافقة مع جهود واجتهادات كبرى تبذلها بعض الشخصيات السورية، المثقفة والسياسية، للملمة شتات المعارضة، استنتجنا عمق التلونات المكبوتة التي بدأت تطغى على المشهد السياسي، والتي توحي بالانشقاقات المسكوت عنها بين معارضة الداخل والخارج من جهة، ومعارضة الداخل في ما بينها من جهةٍ أخرى. ولئن كان التلون السياسي في الظروف المستقرة ذا دلالة إيجابية، إلا أنه، في وضع تتصاعد فيه الأحداث باتجاه الذروة وتتنامى ضرورة التراص، يأخذ دلالة سلبية ويوحي بمنطق رغبوي لم يحتكم بعد إلى العقلانية. يكاد هذا التفلّت في مكونات النظام نفسه يُلمَح عبر التناقض الصارخ في مواقفه المعلنة ذاتها، وعبر التفاوت في تطبيق القرارات والمراسيم الرئاسية، وعبر صمت المسؤولين على مستوى الخطاب السياسي تجاه ما يحدث، فمنذ بداية الأحداث تقدم الرئيس السوري بشار الأسد بخطابات قليلة جداً، ولم نعد نسمع بمؤتمرات صحافية لشخصيات اعتبارية سياسية من النظام. وتحيل ضبابية الموقف الرسمي إلى استنتاجات قد يكون أهمها عدم التوافق على الصيغة الرسمية للقرار السياسي، أما تذبذب الحل الأمني بين قمع المتظاهرين وتطويق المدن والدعوات الخجولة للحوار، فقد يكون مؤشراً يدعم هذا الافتراض. الشارع المتحرك خلع اليوم فسيفساءه على ساسته، ليعيد صياغة المجتمع «موقتاً» تحت شعار: «الشعب السوري واحد». هذا الشارع أضفى المعنى على الوعي العام، وأبرز تفوقه على نظيره السياسي، الذي لم يستطع إلى الآن بلورة ما يليق بالشعب السوري، وما يرتقي إلى مستوى الحراك الشعبي. لكن ذلك الحراك، وفي الوقت ذاته، يدفع ضريبتين: ضريبة مباشرة، إذ يتلقى ردات فعل النظام بأقسى أشكالها، من اختزاله، إلى عناصر مندسة، وجماعات مسلحة، وجماعات سلفية، وصولاً إلى مواجهته بالقمع الأمني المستشري، وتدخُّل الجيش في بعض المناطق، وضريبة غير مباشرة، عبر تعثّر خطى المعارضة وتأخر فعلها السياسي عن اللحظة المطلوبة، وبالتالي وضعه بشكل مباشر أمام مسؤوليات إضافية لمسؤولية المواجهة الميدانية. والفاعلية المتنامية للحراك الشعبي تحصِّنه من تناقضاته الداخلية وتلوناته المتضاربة، وتزيد فرص نجاحه في نضاله للتغيير، لكن التغيير ذاته يصعب أن ينجح من دون تكاتف القوى السياسية والثقافية وتعاضدها. ويبدو أن انتقال المشهد الفسيفسائي إلى الحقل السياسي في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة، يعسّر المخاض ويزيد صعوبته. الفسيفساء السياسية مطلوبة، لكن ما هو مطلوب أكثر، توحُّد ألوان الطيف ليبرز لون سورية الخاص في فضاء سياسي حر، شعاره المصلحة الوطنية أولاً. * كاتبة سورية