اجتاحت بعض الدول العربية منذ أشهر انتفاضات شعبية تطالب بالديموقراطية والحرية والكرامة. وتمكنت احتجاجات تونس ومصر من إطاحة نظامي البلدين، نتيجةَ تلاحم الجماهير المنتفضة، ووضوحِ أهدافها ورؤاها، وإصرارِها على تحقيق مرادها على رغم الصعوبات، وصمودِها أمام قمع الأجهزة الأمنية، وحماية القوات المسلحة ووقوفها على الحياد. وتشكلت في البلدين بعد سقوط النظام فيهما حكومتان انتقاليتان، مهماتهما: ترسيخ الاستقرار، والاهتمام بالأوضاع الاقتصادية، وإجراء انتخابات نيابية ورئاسية حرة ونزيهة. وعلى رغم سقوط النظامين وتولّي إدارة البلدين وزراء يمثلون إلى حد بعيد تطلعات شباب الثورة، إلا أن الأمور لم تأخذ بعد مساراً صحيحاً، فالأمن لا يزال مهتزاً والاضطرابات الطائفية والقبلية تطفو على السطح لدى اي حادث فردي بسيط، نتيجة تشنجات مكبوتة داخل صدور فئة من المواطنين يتلاعب بعواطفها مندسون يريدون الفشل لثورتي «الياسمين» و «25 يناير». وما يدفعنا إلى الاستغراب، بكاء البعض في البلدين على النظامين المنهارين، بذريعة ثبات الاستقرار الأمني في ظلهما وفقدانه في ظل الثورتين، متناسين أن الحرية والكرامة أهم بكثير من الأمان النسبي المقرون بالقهر والإذلال، وأن فرنسا بقيت تشهد اضطرابات أمنية طوال ثلاثين سنة بعد سقوط سجن «الباستيل» ونجاح الثورة، ثم تحقق بعدها الأمن والاستقرار والازدهار نتاج ثورتها، التي أصبحت أهدافها قدوة لشعوب العالم. وتقع على شباب الثورة في تونس ومصر مسؤولية وضع برامج حديثة في مجالات الإدارة والاقتصاد والتنمية والخدمات الاجتماعية وآليات تنفيذية لها، وتصدّر العمل السياسي في المرحلة المقبلة، من أجل الانتقال بالبلدين من الفوضى القائمة إلى مرتبة الدولة المدنية القوية القادرة على الحفاظ على أمن مواطنيها، وتحقيق تطلعاتهم السياسية والاجتماعية والمعيشية، والانطلاق بالاقتصاد الوطني نحو مزيد من الاستثمار في مجال الإنتاج من أجل خلق فرص عمل جديدة. وما ان خرج «شباب 17 نوفمبر» منذ خمسة أشهر في تظاهرات سلمية حاشدة في بعض المدن الليبية، للمطالبة بالحرية والاحتجاج على تفرد العقيد معمر القذافي بالسلطة، حتى تصدت لهم كتائبه الأمنية بالذخيرة الحية، موقعة فيهم مئات القتلى والجرحى، ما دفعهم إلى مواجهتها بصدورهم العارية وبما يملكون من أسلحة خفيفة. وتطورت المواجهات إلى استخدام كتائب القذافي الدبابات والمدفعية في قصف المدنيين وقتل الآلاف وتدمير البنى التحتية في معظم المدن الليبية. وأدى تمسك القذافي بالسلطة ومواصلته العنف ضد المدنيين إلى تدخل المجتمع الدولي عسكرياً من أجل حمايتهم، ما أدى إلى توسّع دائرة المواجهات وسقوط المزيد من القتلى وتدمير معظم القوة العسكرية الليبية. وعلى رغم الخسائر الفادحة في الأرواح والمعدات والمباني، لا يزال القذافي يتشبث بموقعه الذي يعتبره أهم بكثير من حيوات مواطنيه ومصير بلده، نتيجة تحكم مرض جنون العظمة بتصرفاته. والمؤسف أنه كلما اقتربت نهاية القذافي، كلما زادت شراسته وزادت معها محنة الليبيين. ويعيش اليمن على شفير الحرب الأهلية، نتيجة تمسك الرئيس علي عبد الله صالح بالسلطة، ورفضه الاستماع لأصوات مئات الآلاف من شعبه المطالبين برحيله، وتهربه من توقيع مبادرة «مجلس التعاون الخليجي» التي أعطته وبطانته ضمانات بالحماية وعدم الملاحقة القانونية. ومع أن هذه الضمانات ترفضها شريحة كبيرة من اليمنيين، إلا أنها وبحسب العارفين تُبعد اليمن، الذي كان سعيداً في غابر الزمان، عن الانزلاق إلى حرب أهلية قد تطول، وتؤدي إلى تدميره وتفتيته. والأمل يبقى في أن يتعظ صالح مما أصابه، ويستمع إلى نصائح الأشقاء والأصدقاء، الذين كانوا حتى أمد قريب أكثر الداعمين له، فيتنحى عن الحكم بكرامة. وتجتاح المدن والبلدات السورية منذ ثلاثة أشهرالاحتجاجات الشعبية المطالِبة بالحرية والتغيير، وسقط بنتيجة القمع الذي تمارسه ضدها القوى الأمنية والعسكرية وميليشيات «حزب البعث» مئات القتلى والجرحى. وكان الأحرى بالرئيس السوري بشار الأسد الاستماع لمطالب شعبه المشروعة وتلبيتها، بدلاً من الهروب إلى الأمام بوعود غير مجدية، فيما تتولى أجهزته كبت الحريات واعتقال أصحاب الرأي والتنكيل بهم وحماية الفاسدين وناهبي ثروات الشعب. ويستمر النظام في ملاحقة المحتجين وقمعهم، غير مكترث بالضجيج الإعلامي والعقوبات الدولية، مستنداً إلى دعم روسيا والصين وسكوت الدول العربية وتلكؤ الدول الغربية في اتخاذ قرار المجابهة العملية. وكيف نفسر الموقف الروسي الداعم لنظام قتل أكثر من ألف ومئتي متظاهر سلمي، في الوقت الذي يقول ميخائيل مارغيلوف مبعوث الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف أثناء زيارته بنغازي «إن القذافي فقد شرعيته بعد أول رصاصة أطلقت على الشعب الليبي». وبعد أن بدأ الأسد يُحكم قبضته على الساحة السورية بالقمع والأرض المحروقة، أعطى الضوء الأخضر لحلفائه في لبنان بتشكيل حكومة مواجهة برئاسة نجيب ميقاتي، لإظهار استمرار تحكمه بالمسار السياسي اللبناني، وبأنه لا يزال قادراً على الإمساك بالورقة اللبنانية لتخفيف الضغوط الدولية عنه، وإن تطلب الأمر تعميم الفوضى وعدم الاستقرار في لبنان، خصوصاً أن صدور القرار الاتهامي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري بات وشيكاً. يواجه ربيع العرب في الدول التي تشهد انتفاضات، عقبات عدة، منها: 1- إمساك الحكام العرب بمفاصل الدولة الأمنية والعسكرية بواسطة أولادهم وإخوتهم وأبناء عشيرتهم، الذين يستخدمون القوات الأمنية والعسكرية في قمع الاحتجاجات السلمية من أجل حماية الأنظمة الفاسدة، بدلاً من حماية المواطنين والحدود واسترجاع الأراضي المحتلة. ويحيط بهؤلاء الحكام بطانة من المسؤولين الفاسدين «المبخّرين» الذين لا يهتمون بمطالب الناس ولا يأبهون لمعاناتهم، ويستخدمون مراكزهم في سبيل مصالحهم الخاصة. ما يدفع بهؤلاء الحكام إلى التمسك بمواقعهم ورفض تداول السلطة. 2- عدم وجود معارضة قوية منظمة ذات رؤى مستقبلية وبرامج إصلاحية مفصلة في مجالات السياسة والاقتصاد والإدارة والخدمات الصحية والاجتماعية. والأسباب الرئيسة لضعف المعارضة وتشتتها انعدام التعددية وكبت الحريات واعتقال أصحاب الرأي والضمير وسيطرة الأحزاب الحاكمة على الحياة السياسية. 3- عدم تمكن المعارضة من تحييد القوات المسلحة، وفشلها في استقطاب القبائل الموالية للحكم في ليبيا واليمن، والأقليات الدينية والفاعليات الاقتصادية في سورية. 4- التدخلات الخارجية وارتباطها بالمصالح الاقتصادية والمواقع الجغرافية. كان لضغوط الدول الغربية على قيادات القوات المسلحة في تونس ومصر تأثيره الفاعل في إطاحة نظامي البلدين، بينما لم تمارس هذه الدول ضغوطاً فاعلة على صالح وقادة الجيش اليمني، لاعتبارات قبلية وخوفاً من سقوط اليمن، الذي يشكل معبراً مهماً للنفط، في أيدي حكام جدد قد يعارضون سياساتها. وكان لتدخل الغرب في ليبيا بطلب من ثوارها والجامعة العربية تأثيره الإيجابي على صمود الثوار وقرب نهاية حكم القذافي، أما تأثيره السلبي، فيتمثل بتدمير البنى التحتية من طرقات ومحطات ضخ المياه وتوليد الكهرباء ومصافي النفط، والمطارات الحربية والثكنات العسكرية ومئات الدبابات والمدافع... نتيجة تمسك القذافي بالسلطة واستعماله الأسلحة الثقيلة ضد المدنيين وتباطؤ «الناتو» في الحسم العسكري. وتتطلع الدول الغربية إلى مرحلة ما بعد القذافي، حيث عيونها على نفط ليبيا ومشاريع ببلايين الدولارات لإعادة إعمارها. وأدى التدخل الروسي القوي في دعم الأسد إلى ابتعاد الغرب عن مؤازرة المعارضة السورية بصورة فاعلة، ما أدى بالمعارضة إلى الترنح، ولكن أيضاً، الى مزيد من الإصرار على مطالبها. وتواجه ثورتا مصر وتونس عقبات كثيرة، منها: غياب الاستقرار الأمني بسبب انكفاء الشرطة عن القيام بمهماتها كاملة، وتحكّم الموظفين الفاسدين الموالين للنظامين السابقين في أجهزة الدولة الإدارية والأمنية، والمحاكمات العسكرية وعدم إلغاء قانون الطوارئ والقوانين المقيدة للحريات. ما دفع منظمة «هيومن رايتس ووتش» إلى إعلان «أن انتقال مصر إلى الديموقراطية معرّض للخطر إذا لم يقم الجيش الممسك بالسلطة بإصلاحات حاسمة لإلغاء القوانين والممارسات القمعية الموروثة من نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك». * كاتب لبناني