يراهن الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف، على نجاح برامجه الإصلاحية على الصعيد الاقتصادي، إذ يبدو أن لورقة تهيئة مناخ استثماري نشط وفعال في روسيا، أهمية خاصة في أجندة التحضير لفترة رئاسية ثانية. فمدفيديف أعلن في آذار (مارس) الماضي في مدينة ماجنيتي غورسك، إطلاق برنامج واسع من عشر مراحل يهدف إلى تحسين مناخ الاستثمار في البلاد. وكلمة الرئيس في المناسبة أعادت إلى الذاكرة البرنامج الذي عرضه في خطابه خلال المنتدى الاقتصادي في مدينة كرسنيارسك في شباط (فبراير) عام 2008. في حينه، لم تكن انقضت بعد سنة واحدة من ولاية الرئيس الجديد، لكنه وجد الفرصة سانحة للشروع في حديث عن برامج إصلاحية واسعة النطاق، ربما أراد منها أن يبرز للغرب كيف يتميز عن سابقه فلاديمير بوتين في مناحٍ عدة. آنذاك، لم يقتصر مدفيديف على التركيز على ضرورة إشاعة الحرية، بل تطرق أيضاً لتدابير محددة، منها استبدال مسؤولين حكوميين بآخرين مستقلين في مجال إدارات الشركات المملوكة للدولة، موضحاً أن على المسؤولين الحكوميين أن يعلموا أن المجتمع هو صاحب العمل، وأن لا يمكنهم ترؤس أكثر من شركة تجارية، وأن على الدولة اختيار مديرين مستقلين، ما من شأنه المساعدة في محاربة الفساد. في هذه المرة وكوسيلة لتحسين مناخ الاستثمار، يسعى مدفيديف إلى تقليص النفوذ المفرط فيه للحكومة في بيئة قطاع الأعمال. عام 2008 كان رد الفعل على خطاب الرئيس سريعاً، وفي حزيران (يونيو) تشكلت لوائح المرشحين المستقلين، وفي أواخر الصيف بدأت مجالس الإدارات الجديدة العمل واشترك في هذه العملية الشركات المملوكة مئة في المئة للدولة. تم تنفيذ اقتراح مدفيديف، ولكن في الشكل من دون المضمون، والمسؤولون الحكوميون ما زالوا يتولون منصب رؤساء مجلس إدارة الشركات المملوكة للدولة، وجزء كبير من المديرين المستقلين يتم تعيينهم. لكن في الواقع، تتم الإدارة وفق تعليمات تصدر عن الحكومة. وما زال دور المجالس غير مؤثر على رغم أن غالبية الأعضاء من المستقلين، وذلك بسبب أن رؤساء مجالس الإدارة هم من المسؤولين الحكوميين الذين يعترفون صراحة، بأن جدولهم الزمني مرتبط إما بالرئيس أو برئيس الحكومة، وفي هذه الحالة يفضلون إلغاء اجتماع مجلس الإدارة. والكثير من المديرين المستقلين يشتكون من أن اتخاذ القرارات يتم في مكان آخر ومن دون أن يناقشها المجلس. بعد حديث الرئيس، حدد أجل وقائمة بالشركات. فقبل مطلع تموز (يوليو) المقبل يجب إحداث تغيير في 17 شركة، وقبل الأول من تشرين الأول (أكتوبر)، سيأتي دور شركات كبرى أخرى، فيما تبدو أنها عملية تطهير واسعة النطاق ستطاول قطاع الشركات الحكومية الاحتكارية. ان الأسباب الرئيسة لهذه الإجراءات تكمن في ممارسة المسؤولين التزاماتهم المباشرة، ووجودهم في أكثر من مجلس إدارة، ما يؤدي إلى تضارب المصالح في الإشراف الكامل على الصناعة والشركات. ويجب الأخذ في الاعتبار: أولاً: المشاركة النوعية في مجالس إدارات شركات المساهمة الكبرى تتطلب الفصل التام عن غيرها من الشركات، وبسبب انشغالهم في مهامهم الرئيسة غالباً لا يملكون الوقت الكافي لإدارة شؤون الشركة، وبرنامج العمل لهؤلاء غير واضح، وخير مثال على ذلك أن الشركات المملوكة للدولة لا يوجد لديها خطط عمل للعام الحالي. ثانياً: أن كل مسؤول حكومي عضو في عدد من المجالس، وحتى بعد تقليص العدد ما زال واضحاً، عدم تحسن عمل مجالس الإدارة في الشركات المملوكة للدولة. على سبيل المثال أعلن غيرمان غريف (وزير الاقتصاد السابق ورئيس مجلس إدارة بنك الادخار) خلال شهادته في قضية خودوركوفسكي، أن في بداية عام 2000 كان (غريف) عضواً في مجلس إدارة الكثير من الشركات حتى انه لا يتذكرها. ثالثاً: تضارب مصالح المسؤولين الحكوميين، إذ عليهم تنظيم عمل قطاع بأكمله بما في ذلك إدارة الشركات الفردية، وكثيراً ما يحدث أن المسؤولين لا يديرون قطاعاً واحداً وإنما عدداً من القطاعات، ومن هنا يأتي التضارب بين مصالح الشركات والقطاعات أو مصالحهم الشخصية. وأي مسؤول قريب من الشركات الحكومية يتمتع بالكثير من الامتيازات والمنافع غير المتوافرة للقطاع الخاص. وتحصل الشركات الحكومية على امتيازات ليست نتيجة الكفاءة لكن بسبب علاقاتها مع النظام البيروقراطي، وهذا يمثل مشكلة حقيقية لروسيا الاتحادية. ويخلص مدفيديف الى القول: «الدولة تحاول أن تكون أفضل رجل أعمال، وهذا أبداً لن يتحقق، فهو لم يحدث في أي بلد ولن يحدث عندنا. وعلى من يشغل منصب وزير أو نائب رئيس الحكومة ألّا يغضب، فلديه مهام محددة، وهو ملزم بالإعداد اللازم لأداء المهمة في نطاق اختصاص مجلس الإدارة، وهذا واضح، لكن التنفيذ يجب ألا يتوقف على إرادة وزراء». الآن، وفي ظل الاستعجال، يترك المسؤولون مجالس الإدارة، وعلى سبيل المثال في مصرف «سبيريغاتلني» العملاق تنحى أركادي دفوركوفيتش (مستشار الرئيس للشؤون الاقتصادية) وأليفايرا نابولينا وزيرة التنمية الاقتصادية من مجلس الإدارة وفق إرادتهما. وإجراءات إدارة هذه الشركات ليست واضحة وليس واضحاً من سيحل محلهما، ولهذا يبدأ البحث عن قرارات مشكوك فيها حول البديل، من سيشغل منصب رئيس مجلس الإدارة، هناك غموض لتبدأ معركة فيما بينهم حول التخلي عن مناصبهم. أسئلة منطقية تطرح نفسها، كيف سيتم تنفيذ ما طرحه الرئيس، وما مدى فاعلية هذه القرارات التي تحاول الحكومة القيام بها، وأي علاقة بين الدولة والشركة؟ كل هذه الأسئلة ما زالت مطروحة، وهي تتطلب دراسة عميقة وعملاً جاداً. تحسين مناخ الاستثمار من خلال إخلاء مجالس الإدارة من المسؤولين الحكوميين مبادرة جيدة، لكن في روسيا أي شركة خاصة هي تلك التي تعمل في القطاعات الاستراتيجية وتقع تحت سيطرة قوية من الدولة، فالمشكلة الرئيسة ليست في تغيير الموظفين بل في تغيير النظام ذاته، وهذا يتوقف على الدولة.