اذا كانت دار الأوبرا في مصر مقياساً في الأهمية لهذا المغني أو تلك المغنية، بل اذا كان فتح ابوابها له او لها في حفلة أو أكثر هو اعتراف بمستوى فني أدائي متميّز، فإن المغني اللبناني وائل جسّار من هذا النوع من الفنانين الذين قالت دار الأوبرا كلمتها فيهم اذ يكاد يكون الصوت الأبرز بين الأصوات اللبنانية «المطلوبة» الى هناك في مناسبات احيائية للتراث الغنائي العربي المستمر حاضراً ... في صوت وائل جسّار من القوّة ما يجعله يؤدي الأغاني الصعبة في طبقاتها الادائية العالية او المنخفضة بالنسبة ذاتها من الجودة، وفيه من الأبعاد الرومانسية الدافئة ما يمكنه من اداء الأغاني العاطفية الناعمة التي تتطلّب إحساساً وانفعالاً وامتلاكاً لزمام التعبير الوجداني المترافق حكماً مع امتلاك زمام السيطرة على تموّجات الصوت وذبذباته الرقيقة. في هاتين الناحيتين يكاد وائل جسّار يكون فريداً بين مجايليه على الأقل، وأغلبهم يكتفي بمساحة محدودة من الصوت، «يلعب» فيها ولا يتجاوزها خشية الإفتضاح ... لقد برز وائل جسّار كنموذج لجيل جديد من المغنين يتعامل مع التراث براحة وإيمان معاً: الراحة تعني عدم الخوف من الماضي الغنائي والثقة بالنفس والأمكانات، والإيمان يعني ان في ذلك التراث ما يستحق دائماً أن يرجع اليه، لا في المناسبات فحسب، بل أيضاً في أي حفلة، وكذلك في اعادة تسجيل بعض الأغاني القديمة التي ولدت، على ما يبدو، لكل الأزمنة باشتمالها على صفات ومميزات وعناصر تكوين ابداعية حقيقية ... عرف وائل جسّار بهذا الثقل الفني، لكنه عندما جاء الى الأغاني الخاصة به لم يحتل الموقع نفسه. فهل هو عدم قدرة على اختيار الأغنية المناسبة التي تصنع له هوية فنية؟ أم هو عدم قدرة لدى الملحنين الذين يتعاون واياهم على «اكتشاف» صوته بلباسه هو لا بلباس الجدود؟ أم هو عدم قدرة لدى شركة الانتاج التي ترعى نشاطه على ابتكار موقع له يستحقه بين زملائه؟! أغلب الظن أن الأسباب الثلاثة الآنفة الذكر، مجتمعة، بالتكافل والتضامن تتحمل المسؤولية. فاختيار الأغاني مسؤولية وائل جسّار اولاً وأخيراً، وصناعة الألحان مسؤولية الملحنين ثانياً، وتحديد موقع بناءً لخطة انتاجية مسؤولية الشركة الراعية. الأسباب الثلاثة معاً اتّحدت في «منع» وائل من الوصول الى سدّة النجومية بالمعنى الشائع والمعروف. من دون أن يكون في هذا الكلام أي انتقاص من حجم موهبته الرائعة حقاً. وفي الغناء العربي، القديم والمعاصر، أسماء كثيرة تعيش أو عاشت حالة وائل التي تعكس ارتباكاً بل عدم تكافوء بين الصوت بما يختزنه من الطاقة التعبيرية الوقّادة، وبين واقع الانتشار ورواج الأغاني وضياع الجهد سدى تقريباً ... بعض أغاني وائل نال نجاحاً واضحاً، لكنه كان باستمرار نجاحاً لا يراكم على نجاح سابق بقدر ما يبدو نجاحاً معزولاً عما قبله أو عما قد يأتي بعده. في كل أغنية ناجحة فنياً وشعبياً، كأن وائل جسّار يبدأ من هنا. كيف يحدث ذلك؟ لماذا يحدث ذلك؟ والى متى سيحدث ذلك؟ .. أسئلة لا يستطيع وائل الإجابة عنها ... الا بالاعلان انه غيّر مدير أعماله! ينتظر وائل جسّار اكثر من ذلك بكثير: ينتظر الذهاب الى ملحنين جدد، الى أفكار أغان جديدة، الى الإقلاع عن الإعجاب بهذا أو ذاك من المغنين ومحاولة محاكاتهم في أغان لا تقدّم له إلا قليلاًَ ... قد تكون الأغنية الجميلة «الشمس شمعة» ، ذات العمق الاجتماعي – الانساني التي أداها في فيلم « كباريه» باباً حقيقياً وواسعاً له ليدخل الى نوعية مختلفة من الأغاني المؤثرة في المستمع بما تحمله من انتقاد لدلالات وظواهر في الواقع ضمن قالب شعري متماسك، وقالب لحني وموسيقي يخاطب العقل والقلب معاً. قد تكون هذه الأغنية، وما يوازيها، نقطة انطلاق جديدة لصوت وأمل يغادر فيها المراوحة في الحلقة المفرغة ... ينبغي ان يبحث وائل جسّار عن أغنية لصوته، لحنجرته، لشخصيته، لا عن أغنية يؤديها بصوته فقط. والفرق كبير.