يستغل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أي فرصة متاحة أمامه لأحداث الشقاق داخل دول الاتحاد الأوروبي، سواء كان ذلك بالعمل على حرف مسارات العمليات الانتخابية لصالح القوى اليمينية المتطرفة أو التيارات الشعبوية المناهضة للمشروع الأوروبي، أو باختراق المجتمعات الأوروبية عبر تسخير مشاعر الغضب المتنامية في أوساط أعداد من فئات الشعب ضد الحكومات الليبيرالية والأحزاب السياسية التقليدية. وتكشف التقارير الجديدة التي نشرت في إسبانيا أن الكرملين شجع المشاعر الانفصالية وحرض عبر آلاف من روبوتات الويب (nternet Bot) في وسائل التواصل الاجتماعي، أو من خلال قيامه باتصالات مباشرة، أو شن حرب هجينية منظمة. ويشير تقرير صادر عن المعهد الإسباني للدراسات الاستراتيجية (IEEE) التابع لوزارة الدفاع في مدريد إلى «أن الكرملين راهن في شكل كبير على التطورات الدراماتيكية في كاتالونيا لزعزعة الاستقرار في إسبانيا، مستخدماً وسائل التواصل الاجتماعي لتمرير سياسة معدة بدقة وعناية لإثارة الفتنة والارتباك والقلق في أوساط الفئات الشعبية في المجتمع الكتالوني، مثلما حصل في الانتخابات الأميركية». ورأى مراقبون أن هذه هي «المرة الأولى التي توجه جهة مرتبطة مباشرة بالحكومة الإسبانية اتهاماً لروسيا بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد». في السياق كان المعهد الملكي الإسباني (الكانو) الذي يحظى برعاية مباشرة من العاهل الإسباني فيليبي، اتهم روسيا بإعلان «الحرب الإعلامية على إسبانيا». أفردت وسائل الإعلام الروسية التي يمولها الكرملين، وفي طليعتها وكالة «سبوتنيك» وقناة «روسيا اليوم» باللغة الإسبانية، مساحات كبيرة من محتواها الإعلامي لمتابعة نشاطات الانفصاليين، وبث برامج حوارية، ونشر معلومات تعمق الفرقة في صفوف الكتالونيين وتحرض على الانفصال، وكان من أكثر الأخبار الذي جذب أن تباه وسائل الإعلام الغربية، ذلك الذي ورد في «سبوتنيك» حول افتتاح ممثلية لجمهورية أوسيتيا الجنوبية التي أعلنت استقلالها من جانب واحد عن جورجيا قبل ما يزيد عن ربع قرن في برشلونة. ولقد شارك وزير خارجية هذه الدويلة المدعومة من موسكو ديمتيري ميدويف الذي قام بزيارة إلى كاتالونيا شخصياً في حفل الافتتاح، كما التقى على هامش زيارته عدداً من المسؤولين وبحث معهم سبل تعميق العلاقات والروابط الثنائية في المجالات الثقافية والإنسانية. ومن جانبها ذكرت «ريا نوفوستي» نقلاً عن ميدويف قوله «إن بلاده كابدت منذ 26 عاماً ذات المصاعب المصيرية لإقامة كيانها الخاص»، في إشارة إلى ما تواجهه كاتالونيا اليوم من مشكلات لإعلان الاستقلال عن إسبانيا. وعلقت صحيفة «البايس» الإسبانية على هذه الزيارة بقولها «إن ميدويف القريب من بوتين يلعب دوراً مهما في تنفيذ الاستراتيجية الروسية التي تستهدف ضم أراضي الجمهوريات السوفياتية السابقة إلى الاتحاد الفيدرالي الروسي». وأضافت» أن زيارة ميدويف تستهدف الربط بين «فلك الكرملين» وكاتالونيا المحتمل أن فصالها عن إسبانيا». وكانت السلطات الرسمية في أوسيتيا الجنوبية أعلنت في 25 أيلول (سبتمبر) الماضي «ضرورة احترام حق سكان كاتالونيا في تقرير المصير والسيادة». ارتياح روسي مكتوم السمة الغالبة لتغطية الميديا الروسية نشاطات الانفصاليين في كاتالونيا وإيطاليا هي «الارتياح المكتوم» تجاه انفجار هذه التحركات في العديد من دول الاتحاد الأوروبي، وكان الرئيس بوتين ربط في معرض تعليقه على الحركات أنفصالية الطابع وبين أن تقتاده ضد أنحياز واشنطن وأوروبا الغربية إلى الاعتراف باستقلال الإقليم الصربي كوسوفو الذي برأيه أطلق شرارة التحركات الانفصالية في إسبانيا وإيطاليا وغيرها». في اجتماع لوزراء خارجية ودفاع الاتحاد الأوروبي في بروكسيل طرح وزير الخارجية الإسباني الفونسو داستيس مسألة «المعلومات المضللة» التي تروجها روسيا عند تعاطيها مع أزمة استقلال كاتالونيا وقال «إن بلاده قد تأكدت من صحة وجود تدخلات روسية وفنزويلية، حيث رصدت حسابات وهمية على وسائل التواصل الاجتماعي نصفها في روسيا، ونحو 30 في المئة في فنزويلا، وهي أن شئت خصيصاً لتضخيم منافع الانفصال من خلال إعادة نشر رسائل وتدوينات». وقالت الخبيرة في منصات التواصل الاجتماعي فيسسلافا أن تونوفا ل «الحياة» إن «السلطات الروسية جعلت من الإعلام التقليدي والإلكتروني سلاحاً لضرب الدول الأوروبية، إضافة إلى تسخير الأزمات التي يمر بها الاتحاد لتقويضه من الداخل». وأوضحت» أن روسيا استخدمت قنواتها الإعلامية القوية ومواقعها الإلكترونية وتحليلات الأكاديميين والخبراء والمحللين الدائرين في الفلك الروسي، وحتى الحسابات المجهولة والموجهة عبر تويتر للتأثير على مسار نتائج استفتاء كاتالونيا وقبلها الانتخابات الهولندية والألمانية والأميركية». وأفاد موقع» أودينس» المتخصص في تحليل بيانات مواقع التواصل الاجتماعي أنه تمت الإشارة إلى صاحب موقع ويكيليكس جوليان أسانج 940 ألف مرة على تويتر، الغالبية العظمى منها كانت وسوم (هاشتاغات) متعلقة باستقلال كاتالونيا». تشير البيانات الرسمية التي أوردتها الميديا الإسبانية إلى أن شبكات التواصل الاجتماعية زادت من نشاطاتها بنسبة 2000 في المائة لصالح الانفصال، وقالت صحيفة «البايس» إن «روسيا خصصت ماكينة إعلامية لنشر الدعاية المغلوطة وترويج الأكاذيب عن السياسة الداخلية للحكومة الإسبانية حيال الأزمة في كاتالونيا»، وأضافت» وجد الكرملين في كاتالونيا فرصة أخرى متاحة لتعزيز نفوذ روسيا الدولي، وتعميق الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي». ودعا العضو في البرلمان الأوروبي فيكتور بوستينار الحكومة في مدريد إلى «أن تأخذ التهديد الروسي محمل الجد» وقال «إن كاتالونيا هي حالة أخرى من التدخل الروسي الضار». وأورد معلومات استخباراتية تؤكد تورط قراصنة روس في الترويج لحملات عبر الإنترنت تدعم الانفصاليين». ووفقاً لدراسة أعدها مركز البحوث والدراسات في جامعة جورج واشنطن الأميركية» أن منصات متعددة للميديا الاجتماعية تدار من روسيا تستخدم عدداً كبيراً للغاية من الحسابات في فنزويلا لتشويه صورة إسبانيا والحكومة المركزية في مدريد في الأيام التي سبقت وأعقبت الاستفتاء في كاتالونيا». وتضمنت الدراسة تحليلاً تفصيلياً لأكثر من خمسة ملايين إعلاناً تبين أنها هدفت في شكل متعمد إلى إثارة أزمة سياسية واقتصادية جدية تنجم عنها عواقب خطيرة على الأوضاع داخل إسبانيا والاتحاد الأوروبي». وأعتبر الباحث الإسباني إينغو منديس دي فيغو» أن النشاطات الروسية لصالح الانفصاليين تمثل مشكلة فعلية للمسيرة الديمقراطية في إسبانيا وأوروبا ما يستلزم العمل الفعال مع التحديات التقنية المعاصرة». عجز الأحزاب التقليدية تضمنت دراسة جامعة جورج واشنطن استنتاجات مثيرة للقلق مفادها أن المؤسسات والزعماء السياسيين التقليديين فقدوا المقدرة على التأثير على الرأي العام، حيث حل محلهم لاعبين متعددين لا يمكن متابعتهم ومراقبتهم لأنهم لا ينتمون إلى الأحزاب السياسية أو إلى أوساط الميديا لدولة محددة. وأشارت إلى أن «نفوذ وتأثير الأحزاب المدافعة عن الدستور الإسباني على الحملات المؤيدة والداعمة للانفصاليين، التي مصدرها مؤسسات الميديا في روسيا وشبكات التواصل الاجتماعي في فنزويلا، كان في أدنى مستوياته». وأخضعت الدراسة 5029877 محتوى إعلامياً من النشرات والتعليقات والأخبار في تويتر والفيسبوك وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي التي نشرت في الفترة من 29 أيلول (سبتمبر) إلى 5 تشرين الأول (أكتوبر) للتحليل الدقيق، ووجدت أنها تضمنت كلمات (Cataluna,Catalunya I Catalonia). وتبين أيضاً «وجود جيش كامل من الحسابات المترابطة في ما بينها في شكل فعّال يتولى نشر وتداول محتويات ونشرات إعلانية وإعلامية، مصدرها الأساسي قناة «روسيا اليوم» ووكالة «سبوتنيك» وفي أشكال ومواضيع مختلفة، تبدأ من الحرب في سورية ولا تنتهي بالأوضاع في الولايات الأميركية والأزمة في كاتالونيا». وبحسب معدي الدراسة» توجد ملامح مشتركة بين هذه الحملات والأليات والأساليب والمناهج المستخدمة خلال التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية وبريكزيت». وأوردت أمثلة من بينها تشارك مقالات ونشرات قناة «روسيا اليوم» عن الأزمة الكتالونية في شكل واسع في منصات التواصل الاجتماعي تحت علامة (#VenezuelaSalutesCatalonia) وتعني «فنزويلا تحيي كاتالونيا»، كما وتميزت بإشارتها إلى الاتحاد الأوروبي وال «ناتو» وجوليان أسانج، ولعل أحد أكثر الأخبار المتبادلة في وسائل التواصل الاجتماعي منقول من «سبوتنيك» بعنوان» مادورو: راخوي يجب أن يتحمل أمام العالم مسؤولية ما فعله في كاتالونيا». محتويات واستنتاجات توصلت الدراسة إلى أن نصف الأخبار والمحتويات الإعلامية المنقولة من موقع قناة «روسيا اليوم» قبل وبعد الأول من تشرين أول، تحدثت عن عنف الشرطة والسلطات الأمنية الإسبانية ضد الناخبين الكتالونيين» ومن بينها» أن الكتالونيين يختارون مستقبلهم ويحددون مصيرهم تحت هراوات الشرطة والرصاص المطاطي». واعتبر خبراء الميديا الإسبان أن قيام شبكات كثيرة من ( البوتات-Bot) أو الترول- Troll) (وهي أنظمة التصيد أو التداول الإلكتروني ببث المحتويات الإعلامية والأخبار عن كاتالونيا ونشرها من جانب وسائل الميديا الإسبانية مثل وكالة (EFE) وتلفزيون (RTVE) أو الميديا الدولية مثل «الغارديان» البريطانية و (CNN) الأميركية، يظهر بوضوح أن الميديا الروسية (سبوتنيك ) و (روسيا اليوم) شاركتا في تنفيذ استراتيجية رسمية للتلاعب وتشويه النقاش العالمي الدائر عن كاتالونيا في شبكات الميديا الرقمية». ويشير تحليل نشرته صحيفة «دنفنيك» الصادرة في صوفيا إلى «أن الجزء الأكبر من البوتات والترولات التي شاركت في الحملات الإعلامية الخاصة باستقلال كاتالونيا تعود إلى جماعات تتعاطف مع النظام الحاكم في فنزويلا، وتؤيد نظرية رئيسها الراحل تشافيز السياسية (32 في المئة) تليها منصات مجهولة تركز عملها على تداول ونشر محتويات «روسيا اليوم» و «سبوتنيك» (30 في المئة)، فيما البوتات (25 في المئة) وأما المواقع الإلكترونية للقناة والوكالة المذكورتين فتشكل (10 في المئة)، وما بقي من منشورات أخرى متداولة من خلال وسائل ميديا أخرى فيصل إلى (3 في المئة) فقط. وزيران فقط من الحكومة الإسبانية وجها اتهامات مباشرة إلى روسيا بدعم الانفصاليين الكتالونيين والتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، وهما وزيرا الخارجية والدفاع، في وقت لم تصدر الحكومة حتى الآن بياناً يتهم الكرملين بالتحديد، إلا أن هذا لم يمنع موسكو من تكرار تحذير مدريد بأن هذه الاتهامات تضر بالعلاقات الثنائية». وقال الأستاذ في كلية العلوم السياسية في جامعة برشلونة الدكتور جوزيل باكيس «أن ليس لروسيا مصالح استراتيجية محددة في إسبانيا ما عدا بالطبع تغذية الانقسامات السياسية والاجتماعية في كاتالونيا، لكي تضعف من خلال ذلك دولة عضو في الاتحاد الأوروبي». أكد باكيس في دراسة أعدها بعنوان» تحليل الاتجاهات الجيوسياسية على المستوى الدولي» أن «موسكو ربما ستعاود مرة أخرى محاولة خلق المشكلات لإسبانيا العضو في الاتحاد الأوروبي والناتو» في إطار «استراتيجيتها التي ستشمل بلداناً أوروبية أخرى في المستقبل». ولكنه حذر من نتائج وعواقب كبيرة لهذه الاستراتيجية على روسيا التي تواجه هي الأخرى مشكلات داخلية معقدة مصدرها نزعات أنفصالية في الاتحاد الروسي، وعلى سبيل المثل سيبيريا». يشدد باكيس على أن «إسبانيا تبقى بعيدة عن منطقة نفوذ روسيا، لأنها لا تعتمد على شحنات الغاز الروسي بخلاف البلدان الأوروبية الأخرى، فإسبانيا تستورد الغاز الطبيعي من الجزائر التي تعد المنشأ الأكبر حيث تغطي 55 في المئة من احتياجات البلاد». إلا أن الخبير في التقنيات الرقمية في المجلس الأطلسي بن نيمو رأى في تحليله أنه منذ الأول من تشرين الأول الماضي أخدت وتيرة الدعاية الإلكترونية الروسية ضد إسبانيا ولدعم الانفصاليين في كاتالونيا ترتفع أضعافاً، وأصبحت أكثر فعالية وعدوانية في توجهاتها ومحتواها العام». وقال «إن الهدف الأساسي للرئيس الروسي هو التشكيك بفكرة الديمقراطية في أوروبا وفي شكل خاص نموذج الوحدة الأوروبية». وأضاف «أن روسيا تنظر لدورها من خلال ما تثيره من توترات في ما تسميه (الخارج القريب) ومحاولتها إقامة مناطق رمادية تحولها إلى فضاءات لحروبها الهجينة». تعد كاتالونيا ثاني أكبر الأقاليم الإسبانية من حيث عدد السكان البالغ 7,5 مليون نسمة، وهي سادس أكبر مقاطعة من حيث المساحة 32 ألف كيلومتر مربع، ويضم 947 بلدية موزعة على 4 مقاطعات أشهرها برشلونة. يمثل الإقليم 15 في المئة من عدد سكان إسبانيا و6 في المئة من مساحتها العامة، ويوفر20 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الإسباني، ويقدم للحكومة في مدريد ما يقارب 20 بليون يورو سنوياً كضرائب.