تختلف التعريفات لمفهوم «العصامية» إلاّ أنّها في النهاية كلمة «تطلق على كل مَن ينجح ويصل إلى مراتب عالية بجده واجتهاده ولا يعتمد في ذلك على غيره من عشيرة أو قبيلة أو حتى إرث». ويُنسب المفهوم العام للكلمة إلى عصام بن شَهبَر الجِرمي، حاجب النعمان بن المنذر الذي قال عنه النابغة الذبياني «نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما، وجعلته ملكاً هماما ... فتعالى وجاوز الاقواما». وتعدّدت أوجه العصامية في مجالات شتّى لامست كل جوانب الحياة تقريباً، ومنها منظومة الإبداع الحسّي، وتحديداً من خلال الفنّ التشكيلي بمجالاته المتنوعة. وفي هذا السياق التأمت أخيراً الدورة الحادية عشرة للمتلقى الوطني ل «المبدعات العصاميات» في التعبير التشكيلي في مدينة المنستير في الساحل التونسي. وهو ملتقى يمثّل محطة مهمة في المشهد التشكيلي التونسي وموعداً تنتظره المبدعات التونسيات اللواتي لم يتلقيّنَ أيّ تكوين أكاديمي بل كلّهنّ «عصاميات» التكوين حفزتهم الموهبة الفطرية على دخول هذا الميدان، وأصبح للملتقى جمهوره، فيتابعه المهتمون بالفنّ التشكيلي ونقّاده لما يقدّمه من تجارب مهمّة على مستوى الأداء العصامي في التشكيل الفنّي. وأكّد الملتقى خصوصيته وتفرّده منذ دورته الأولى واختياره «العصامية في التعبير التشكيلي» كمنطلق وهدف في آن واحد، وبات يشكّل فرصة سنويّة للفنانات التشكيليات الموهوبات للالتقاء والتحاور والتفاعل المباشر وتبادل التجارب والأفكار والرؤى قصد تقديم «رؤية فنيّة متكاملة تنطلق من الذات المبدعة بمختلف اختلاجاتها لتحاكي الواقع وتتطلع إلى فضاءات جمالية أرحب من دون قيد أو تحفّظ». ويشهد الملتقى تطوراً كبيراً من دورة إلى أخرى سواء على مستوى عدد المشاركات أو تنوّع الأعمال أو الاهتمام النقدي والإعلامي. فالمرأة من خلال انخراطها في هذا الفعل الإبداعي تسعى الى إنشاء عالم خاص بها ربما لم تحالفها سبُل الحياة لصنعه كما تشتهي، كعدم مواصلة الدراسة والانقطاع مبكراً أو رفض العائلة لمواصلة الدراسة في مجال فنّي بخاصة في أواسط القرن الماضي، وغيرها من الأسباب التي جعلت المرأة تبحث عن متنفّس آخر وبطريقة أخرى أكثر إحساساً وأبلغ تعبيراً. وتقول السيدة جويدة: «أنا قاضية ومستشارة قانونية دولية، أمارس الرسم منذ الصغر، ولي أعمال منشورة في صحف تونسية معروفة منذ كان عمري تسع سنوات، ولم أتمكن من مواصلة دراستي في الفنون الجميلة بسبب رفض العائلة، ولكنني واصلت طريق الفنّ من منطلق المحبة والهواية التي ترافقني لليوم، ولعلّ ما يميّز هذا الملتقى أنه يقدم إضافة الى كل المشاركات، وشخصيّاً تطورت تجربتي وأصبحت أمارس تقنيات أخرى كان آخرها الرسم بالرمل...» وشاركت جويدة منذ فترة في معرض جماعي في باريس حيث مثّلت تونس في تظاهرة ثقافية فنيّة. ومن اللافت في تجارب تلك النسوة، تنوعها وثراؤها وتميّز بعضها بحرفية كبيرة، على رغم أنهنّ جميعاً «عصاميات» التكوين وفيهنّ من لم تنل نصيباً وافراً من الدراسة ولا تعمل بل متفرغة لبيتها وأسرتها، ولكنّ ذلك لم يمنعها من صنع عالم خاص بها أثّثته بأحلامها وريشتها وألوانها، وهو ما جعلها تسعى للتمكّن أكثر من أدوات الفعل الفنّي، وعدم الاكتفاء بالفطرة بل تجاوزها للنيل من منابع التجارب الأخرى. وتقول عواطف، وهي من جزيرة جربة في الجنوب الشرقي لتونس، وتشارك لأول مرة، وتضيف: «فكرتُ أن أشارك في هذا الملتقى، وأن أضع أعمالي بين أيدي متخصصين وأدخل المسابقة مع مشاركات أخريات وهي فرصة لأقف عند تجارب أخرى وأقدم من تجربتي وفرصة أيضاً للتعارف والاحتكاك والاستفادة من الورش والخبرات الموجودة...». ولم يجمع الملتقى النساء التونسيات فقط بل شاركت فيه أيضا سيدتان أجنبيتان إحداهنّ صربية، والثانية يابانية مقيمة في تونس منذ ما يزيد عن عشرين سنة، وتشارك للمرة الثانية. وتؤكد ناووكو كيمورا أنّها لم تدخل الميدان الفنّي إلاّ منذ ستّ سنوات، وتقول: «أمارس الرسم الزيتي، وأنا هنا كي أستفيد وأتعلّم تقنيات جديدة وأتواصل مع نساء أخريات أقدم منّي في التجربة».