عرضت فضائية «الجزيرة الوثائقية» فيلماً عن ناشط حركة التضامن الدولية مع أهل غزة فيتوريو أوريغوني الذي قتل على يد سلفيين في القطاع لا يزالون طليقين حتى اللحظة. ربما لا يعود التساؤل مهماً عن هوية هؤلاء القتلة في الدقائق التي يستغرقها فيلم «غزة : ابق إنساناً»، فحياة أوريغوني لا تقدر بثمن هنا، وهو يقاسم أهل القطاع غزارة شقائهم التي دفعت به ليعيش بينهم بعدما اكتشف أن حبه لفلسطين ليس له نهاية: «فأنا إيطالي يوجد فيّ قليل من الدم الفلسطيني، فالرومان كانوا موجودين في فلسطين، ونحن شعبان نطل على المتوسط، وأرى أن إيطاليا من أقرب شعوب هذا الحوض إلى غزة». ربما لم يعنّ على بال هؤلاء القتلة المعنى الإنساني الذي قتلوه في فيتوريو، لكن هذا لا يعني أنه قد فاتهم أنهم يؤسسون لسابقة خطيرة بفعلتهم الشنعاء حين اتخذوا قرار إعدامه خنقاً. ومع ذلك لم يفت فيتوريو أوريغوني أن يؤكد أمام كاميرا المصور أشرف المشهراوي أنه يوجد «في دمي دي أن ايه (الحمض النووي) للمحاربة من أجل الحرية، وفلسطين هي المكان الأنسب من أجلها». حسناً فعل المخرج محمود عزت حين فرّغ فيلمه من ذكر هؤلاء القتلة، اذ أراده نقيّاً منهم، لأن من يخلّد هنا هو فيتوريو أوريغوني، ومن يشاهد الفيلم مفرغاً تماماً من هؤلاء الوحوش ومن آثارهم، يعرف أن غيابهم عنه هو نوع من عقوبة، طالما أن أحداً لم يتحرك بعد لإنزال العقوبة المناسبة بهم. الناشط الإيطالي الذي يقاسم أهل غزة لقمة العيش البسيطة إن توافرت لا يغرق بالحديث عن الشخصيات التي أثرت به. يتوقف عن ذكر غيفارا وماركس ونلسون مانديلا وديزموند توتو، ويغرق في الحديث عن الناس العاديين في قطاع غزة، ويعيش معهم أيام الحصار والمذبحة وملوحة البحر «حين لا يعود هناك ما يملح به». ولا تتوقف الأوشام على ذراعيه المفتولين عن التذكير بقوة هذا الناشط الجسدية والروحية: «الوشم هو تعبير عن الألم الإنساني الذي أشعر به، وهو يعبر عن علاقة جوهرية تربطني مع هذا الصراع غير المتكافئ الذي يخوضه الشعب الفلسطيني في مواجهة جيش يعد من أقوى جيوش العالم». يتعلق فيتوريو أريغوني بوشم حنظلة ووشم المقاومة وهو يقاسم الصيادين الفلسطينيين عذاباتهم في البحث عن لقمة يجود بها البحر المحتل، ويسعى بصحبة رفاق له من حركة التضامن الدولية الى التصدي لعنف هذه الدولة المارقة، «لأن الفلسطينيين علموني أن المقاومة لا تعني فقط البندقية، إنما الصمود في وجه آلة العنف التي تمثلها اسرائيل بعنجهيتها غير المسبوقة». يؤكد فيتوريو في مقالاته التي تنشرها جريدة المانفيستو الإيطالية في شكل دائم أنه لا يوجد إرهابيون في غزة، بل صيادون يحاولون البقاء على قيد الحياة. لم يعجب ما يكتبه الإسرائيليون، فهاجموه أكثر من مرة مع زملاء له كما حدث في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008. يقول: «لا أعترف بالسلطة الإسرائيلية في المياه الفلسطينية. أنا في فلسطين ولن أذهب معكم. لقد عاملوني مثل جنود المارينز، وعذبوني وضربوني بمسدس تاوزر على وجهي لأنهم رأوا أن بنيتي قوية فقط كما لو أنني فرد في فريق كوماندوس رياضي». يذهب المخرج وراء فيتوريو وهو يتردّد على صالات الرياضة الخاصة بكمال الأجسام في قطاع غزة حيث يواصل صقل بنيته الجسمانية: «هنا في هذه الصالة يفرغ الغزيون الميسورون كبتهم من خلال حمل هذه الأوزان، بعدما تحول القطاع إلى أكبر سجن في العالم، حتى صالات الألعاب فيها تحولت إلى سجون من نوع آخر». يواصل فيتوريو صقل جسده وعضلاته على طريقته: «... لأطفئ نيران غضبي تجاه إسرائيل». لا يفوت فيتوريو أن يزور مقبرة إنكليزية من الحرب العالمية الأولى وفيها قبور لجنود من كل الديانات: «لا أؤمن بالحرب تحت أية راية، وأعرف أن إسرائيل في حربها الأخيرة على غزة لم توفر حتى شواهد قبور الضحايا اليهود الذين سقطوا في الحرب الأولى. أريد أن يكتب على قبري فيتوريو المنتصر». ولد فيتوريو أوريغوني في شمال ايطاليا «لأبوين يعرفان أشياء كثيرة عن فلسطين». لم يتلق تعليما جامعياً من أي نوع ، كل ما تعلمه جاءه من «جامعة الشارع والسفر والارتحال». غادر الرفاهية والرخاء الإيطاليين لأنه كان مستحيلاً عليه أن يبقى في إيطاليا «وهناك شعب على شاطئ المتوسط يستحق المساعدة». جاء إلى قطاع غزة وعاش مع أهله. رقص وغنى معهم. أكل ما تيسر له من طعامهم. جلس في مقهى ديليس «المقهى الوحيد المزود بمولد كهرباء»، ليرسل تقاريره إلى الجريدة الإيطالية ومدونته التي أصبحت «أشهر مدونة في إيطاليا خلال شهر المذبحة». يقرأ محمود درويش بالإيطالية، وسبق وتعرف إليه في إحدى زياراته الشعرية إلى ايطاليا ويأسف لأن جده لم يتعرف إليه شخصياً: «محمود درويش أعطى معنى أعمق لحياتي». «ابق إنساناً» هي الجملة التي كان يختم بها مقالاته، وقد أصبحت شعاراً لتظاهرات كثيرة كانت تجوب الشوارع الإيطالية نصرة لقطاع غزة ولرفع الحصار عنه. فيتوريو أوريغوني بقي إنساناً حتى الرمق الخير من دون أن يفوت الوحوش الذين قتلوه أن يظلوا وحوشاً حتى النفس الأخير. ربما لن تتغير هوياتهم في السنين المقبلة، وربما تتشكل منها هويات أخرى لهذا الحوض المتوسطي الذي قاد هذا الناشط الإيطالي نحو غزة، لكن غيابهم عن الفيلم علامة تسجل لمصلحته بكل تأكيد.