يقف جون عند مدخل منزله من الساعة التاسعة صباحاً. الجو بارد جداً، لكنه لا يكترث. ينظر في ساعته، وهو يتحرّك ببطءِ مناسب لسنوات عمره التي قاربت الثمانين. يدخل منزله ويغيب ثم يخرج ويدخل مرات عدة. الساعة الآن اقتربت من العاشرة صباحاً. بعد قليل سيبتسم جون لحافلة صغيرة مليئة بكبار السن، مكتوب عليها «رعاية المجتمع»، وقفت أمام منزله. سيستقلها ولن يعود إلا الساعة الثانية بعد الظهر. هذا الروتين اليومي هو «شريان الحياة» لجون الذي يعيش وحيداً بعدما غادر أولاده المنزل وتوفيت زوجته. وبمختلف المقاييس يُعتبر جون محظوظاً. ففي حي سيربتون، جنوبلندن، حيث يعيش توفّر السلطات المحلية في منطقة «كينغستون أبون تيمز» خدمة الحافلات المجانية التابعة للمجلس البلدي، التي تقل كبار السن من منازلهم كل يوم لتمضية ساعات في أنشطة اجتماعية لمساعدتهم على مواجهة الوحدة والعزلة التي يشعر بها غالبيتهم. «وباء خفي» فالوحدة أو «الوباء الخفي» وفق توصيف «منظمة الصليب الأحمر»، باتت خطراً صحياً واجتماعياً وثقافياً يهدد القارة العجوز. إذ تكبر أوروبا في السن وتكبر معها مشكلات مجتمعاتها. فالبالغون 60 سنة وأكثر ستتضاعف نسبتهم من 12 في المئة 2015 إلى 22 في المئة من تعداد السكان بحلول 2050. وبعدما كان متوسّط كلفة برامج الرعاية الاجتماعية في أوروبا نحو 10 في المئة من إجمالي الناتج القومي، أصبح 21 في المئة. وتنفق أوروبا اليوم على كبار السن، أكثر مما تنفق على صغار السن، ما يترتّب عليه تداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية. ففي بريطانيا مثلاً، تقدّر السلطات أن «وباء العزلة» يكلف الدولة 6 آلاف جنيه استرليني للفرد، هي تكاليف العناية الصحية والخدمات المحلية مثل حافلات الرعاية المجتمعية. لكن على رغم هذه الكلفة، تشير دراسة ل»مدرسة لندن للاقتصاد» إلى أنه في مقابل كل جنيه تنفقه الدولة للوقاية من العزلة، توفّر 3 جنيهات يمكن أن تُنفق لاحقاً لعلاج آثارها الصحية والنفسية. فالوحدة تؤدّي إلى تدهّور الحالة العقلية والجسدية، والموت المبكر، والخرف وضعف الذاكرة والاكتئاب وأمراض القلب والسكر. والمؤسسات الحكومية والخيرية التي تنشط لمكافحة الوحدة، تقول إنها خطر صحي أفدح من السمنة والتدخين. وتظهر الأرقام أن كبار السن الذين يعيشون بمفردهم وفي عزلة تتزايد معدّلات الوفاة بينهم بنسبة 30 في المئة، مقارنة بمن هم في الشريحة العمرية ذاتها ولا يعانون من الوحدة. وبهذا المعنى، الوحدة والعزلة لا تصبحان مسألة فردية- شخصية، بل أزمة اجتماعية- صحية– اقتصادية، كما تصفها النائب في حزب العمال البريطاني راشيل ريفز. وبينما تعاني شريحة كبار السن خصوصاً من العزلة في بريطانيا وألمانيا وسويسرا، فإن بلداناً أوروبية أخرى تواجه مشكلة الوحدة والعزلة لدى شرائح أصغر عمراً وسط سكانها. ففي البلدان الإسكندنافية، النروج والسويد وآيسلندا، تعاني نسب كبيرة من الشباب ومتوسّطي العمر من الوحدة. وتلعب الثقافة والمفاهيم الاجتماعية دوراً كبيراً في هذا الإطار. فالفردية والاستقلالية قيم شديدة الرسوخ ثقافياً في اسكندنافيا، لكن مع تداعيات اجتماعية ونفسية خطيرة. ووفقاً لوكالة الإحصاء الأوروبي (يوروستات)، فإن حوالى 50 في البالغين في السويد يعيشون بمفردهم. ويشتكي حوالى 25 في المئة منهم من الشعور الدائم بالعزلة. وفي أوروبا أجمالاً، يعيش حوالى ثلث السكان بمفردهم. وحدة قياس هذا سؤال معقّد لدرجة أن الحكومة البريطانية أعلنت أن مكتب الإحصاءات الوطنية سيضع طريقة علمية ل»قياس» الشعور بالوحدة. وذلك بعدما أُنشأ صندوق للمساعدة في معالجة المشكلة وتعيين وزيرة دولة مسؤولة عن شؤون الوحدة والعزلة، تراسي كراوتش، من أجل تطوير إستراتيجية قومية للتصدّي لهذه الظاهرة المتنامية في أوروبا. لتصبح بريطانيا أول دولة أوروبية تعيّن وزيرة مسؤولة عن العزلة. الوحدة، كظاهرة متعددة الجوانب والتبعات يعاني منها حوالى 9 ملايين شخص في بريطانيا وحدها، أي حوالى 10 في المئة من السكان، بينهم 1.2 مليون نسمة يعانون من «وحدة مرضية مزمنة» تؤدّي إلى زيادة الضغط على المستشفيات وخدمات الرعاية الاجتماعية. وتختلف أعمارهم وأوضاعهم الاجتماعية وانتماءاتهم الطبقية والظروف التي تساهم في معاناتهم. فحوالى 51 في المئة ممن تجاوزت أعمارهم ال70 سنة يقولون إنهم يعانون من وحدة دائمة. ويكشف غالبيتهم إنهم يمضون أسابيع من دون التحدّث إلى أحد، أو أي تواصل اجتماعي من أي نوع. كما أن حوالى 30 في المئة من الأمهات الجدد، يقلن إنهن يشعرن بوحدة قاتلة. و8 أشخاص من كل 10 من الذين يرعون مريضاً يقولون إنهم يعانون من الوحدة. باختصار، من كبار السن الذين يعيشون بمفردهم، إلى الأمهات الجدد والأمهات المضطرات للبقاء في المنزل لرعاية أطفالهن، مروراً بالشباب في العشرينيات الذين تركوا منازل أسرهم لشق طريقهم في مدن مهرولة واقتصاد فلا يزال يئن، تعاني شرائح واسعة من الأوروبيين من الوحدة والعزلة. وقد ساهمت تطورات العقد الماضي الاقتصادية في شكل لافت في زيادة الظاهرة. فمع الأزمة المالية 2008 وسياسات التقشّف الحكومي والاقتطاعات من موازنات برامج الرعاية الاجتماعية، أغلقت مئات المكتبات العامة ومراكز الرعاية الاجتماعية الحكومية، ما ترك الملايين، خصوصاً من كبار السن، بلا خيارات فيما يتعلّق بالانخراط الاجتماعي. وهذا ألق تدريجاً بعبء مواجهة العزلة على الأفراد عوضاً عن الدولة. ففي حالة جون مثلاً، لم تعد خدمة «حافلات الرعاية المجتمعية» تكفي. فعندما يعود من الأنشطة الاجتماعية الساعة الثانية بعد الظهر، يظل وحيداً بقية اليوم. ومع مشكلاته الصحية المرتبطة بالعمر لم تجد ابنته جيسكا حلاً سوى أن تدخله بيت لرعاية كبار السن. وحتّمت الكلفة الباهظة للخطوة أن تضطر لتأجير منزل أبيها للمساهمة في دفع النفقات. فبيت الرعاية يأخذ أكثر من 6 آلاف جنيه «مساهمة لا ترد» لقبول طلبات السكن فيه. أما الكلفة الشهرية، فتبلغ 3500 جنيه. وبالنسبة لجيسكا فإنها ستضطر للإنفاق أيضاً من مدخرات والدها على رعايته، فإيجار منزله سيكون في حدود 2000 إلى 2500 جنيه. أي أن هناك ألف جنيه يجب أن تدفعها الأسرة فوق إيجار منزل العائلة. وتقول جيسكا: «ليس لدينا حل آخر. والمشكلة هي أنه إذا نفذت المدخرات، فإننا قد نضطر لبيع المنزل لتوفير نفقات الرعاية». وهذا أصبح شائعاً جداً اليوم. فأبناء كثر يفقدون ميراثهم تدريجاً لأنه يتجه لتمويل رعاية صحية واجتماعية وخدمات لم تعد الدولة قادرة على توفيرها. قال جان بول سارتر يوماً «الآخرون هم الجحيم». لو كان سارتر حياً اليوم وشاهد مفاعيل وسائل التواصل الاجتماعي، وتراجع دولة الرفاه والتقشّف وتحديات جيل الألفية الجديدة، ربما لما تمسّك بأشهر عباراته. الكلفة ... والمواجهة - يعيش ثلث سكان أوروبا بمفردهم. وكلما تقدّم العمر، كلما زادت النسبة. - يعاني حوالى 9 ملايين شخص في بريطانيا، أي 10 في المئة من السكان من الوحدة. -51 في المئة ممن تجاوزت أعمارهم ال70 سنة يعانون من منعزلة مزمنة. - 30 في المئة من الأمهات الجديدات، يقلن إنهن يشعرن بوحدة قاتلة. - تزيد الوحدة أخطار الخرف وأمراض القلب والسكر، وتظهر الإحصاءات أن كبار السن الذين يعيشون بمفردهم ترتفع معدلات الموت المبكر بينهم بنسبة 30 في المئة. - تقدّر السلطات البريطانية كلفة العزلة بنحو 6 آلاف جنيه استرليني للفرد الواحد. وتنصح وزارة الصحة البريطانية ب: - ابدأ الحديث مع كبار السن. فعندما تجد أحد جيرانك منهم أمام منزله أو في الشارع توقّف وتبادل معه أطراف الحديث ولا تتعجله. - أعرض المساعدة في التسوّق أو صرف وصفة علاج أو المساعدة في المشي. - ساعدهم في الأعمال المنزلية. - ادعوهم للمشاركة في المناسبات الاجتماعية مثل أعياد الميلاد أو على فنجان شاي أو قهوة. - أرسل لهم من آن إلى آخر وجبة ساخنة أو جاهزة. - في فصل الشتاء تحديداً تردد عليهم من وقت إلى آخر.