منذ اواسط آذار (مارس) الماضي تستمر حركة التظاهر والاحتجاج السورية. وعلى رغم ان تلك الحركة بدأت خجولة في حي الحريقة التجاري في وسط دمشق، فإنها امتدت بصورة سريعة الى مناطق سورية كثيرة، الى درجة يمكن القول معها، انها صارت حاضرة على امتداد الاراضي السورية، وإن كان حضورها وانتشارها متفاوتين بين منطقة وأخرى. والتدقيق في واقع انتشار حركة الاحتجاج والتظاهر، يبين انها اتخذت مسارين اثنين، المسار الاول بدأت فيه الحركة من المدينة، ثم انتقلت الى الريف القريب، وهو ما حصل في مدينة درعا، وتكرر لاحقاً بصور متقاربة في حمص واللاذقية وحماة وإدلب ودير الزور، قبل ان تنتقل الاحتجاجات الى القرى والبلدات القريبة والابعد. والمسار الثاني، كان في انطلاق التظاهرات والاحتجاجات في الارياف والمدن الصغيرة، ثم اتجاهها نحو المدينة، كما حدث في العاصمة دمشق، وهو الامر الذي تطورت في سياقه حركة الاحتجاج والتظاهر في محيط حلب عاصمة الشمال السوري، وفي محافظة الحسكة الواقعة في شمال شرقي البلاد، والذي يضم أكبر تجمع للسوريين الاكراد. والتمايز في مساري حركة الاحتجاج، يبين ان المناطق التي انتشرت فيها الاحتجاجات من المدن الى محيطها، كانت المناطق الموصوفة بأنها الاقل نمواً وتطوراً، كما هو حال معظم المناطق التي اخذت هذا المسار، وبعضها كان أكثر انسجاماً في تركيبته السكانية، كما هو حال درعا ودير الزور وإدلب وريفها، اما في مسار انتشار الاحتجاجات من الريف الى المدن، فقد بدا الامر مختلفاً في مسار المدن الاكبر، والتي كانت مراكز اساسية للانشطة الاقتصادية والخدمية كما هو حال دمشق وحلب، وهي التي تتمركز فيها القوة الامنية الاهم، وتستثنى من ذلك مدينة الحسكة، التي تحيط بها حساسية خاصة ناتجة من وجود كتلتين كبيرتين من العرب والاكراد، مالت فيها الاكثرية الكردية الى التظاهر، فيما اتجهت الاكثرية العربية الى عدم التظاهر، مما جعل الحسكة أقل تظاهراً من ريفها وهو حال حلب ودمشق، وإن تكن الاخيرة قد عززت حضورها في حركة الاحتجاج في الاسابيع الاخيرة. ان السبب الرئيس لتمركز حركات الاحتجاج في المدن الصغيرة والارياف، انما يعود الى التهميش الشديد الذي احاط بتلك المناطق وسكانها، وهو تهميش سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي. ذلك ان اغلب تلك المناطق بعيدة عن مراكز صنع القرار، وهي ابعد عن المشاركة السياسية في الحياة العامة، كما ان اوضاعها من الناحية الاقتصادية، تتسم بصعوبات كبيرة، تزيد عن الصعوبات والمشاكل التي تعاني منها بقية المناطق السورية، كما هو حال درعا وريفها، التي وإن كانت قريبة من دمشق بخلاف دير الزور، إلا ان الواقع الاقتصادي فيهما شديد التردي، حيث لا منشآت اقتصادية ولا استثمارات، بل إن ادارات الدولة الخدمية فيهما شديدة التواضع، وفي المحصلة، تميزت تلك المناطق ببطالة واسعة وفقر شديد وبخاصة في صفوف الشباب، مما يعزز الشعور بالتهميش، وبين تعبيراته في هذه المناطق تهميش ثقافي، مكرس في غياب ملموس لمؤسسات ثقافية باستثناء – مراكز ثقافية قليلة وبائسة النشاط - وفي اية منتجات ثقافية ذات قيمة وإن كانت موجودة، فإنها محدودة للغاية. فواقع تلك المناطق جعلها اقرب الى الافتراق عن السلطة المركزية او عدم الاحساس بحضورها الكثيف، بخاصة اذا لاحظنا، ان معظم هذه المناطق يرتبط بمسارات هجرة داخلية – خارجية دائمة او موقتة، توفر لسكان هذه المناطق مصادر عيش ابعد ما تكون عن تدخل السلطة او عبرها، ومثال ذلك هجرة اهالي منطقة درعا الى منطقة الخليج وبخاصة الكويت، وهجرة اهالي منطقة دير الزور الى الخليج وبخاصة البحرين، وهجرة أكراد وآشوريي الحسكة الى اوروبا والولايات المتحدة، وهجرة اهالي محافظة الرقة الى السعودية، وهجرة بعض من كل هذه المناطق الى العاصمة والمدن السورية الكبرى ولا سيما في السنوات الاخيرة عقب انهيار المواسم الزراعية في تلك المناطق نتيجة الجفاف والسياسات الزراعية المدمرة، وهي هجرة تماثل هجرة أبناء المناطق الاخرى مثل ادلب وحمص ودرعا الى العاصمة خصوصاً، وكانت عائدات الهجرة الخارجية /الداخلية توفر سبل عيش اغلب سكان مناطق المدن والارياف الذاهبة معاً الى التظاهرات وحركة الاحتجاج. غير ان ثمة سبباً آخر له اهمية في انخراط المناطق السابقة في حركة الاحتجاج، وهو ضعف او محدودية حضور الاجهزة الامنية في تلك المناطق مقارنة بما هو عليه الحال، في المدن الكبرى، التي انطلقت التظاهرات في اريافها قبل الانتقال الى المدن، التي تتمركز فيها الاجهزة الامنية، والاهم من فروعها ومركز القرارات فيها، مما ادى الى تأخير او محدودية حركة الاحتجاج والتظاهر في المدن على رغم الزخم الذي ميز حركة اريافها، كما في ارياف ومدن دمشق والحسكة وحلب. لقد جعل الوجود الامني المكثف في المدن الكبرى من الاحتجاج والتظاهر امراً شديد الصعوبة في ظل حرص السلطات على الاحتفاظ بصورة هذه المدن وأنشطتها العامة، بعيدة عن الظهور في صورة المحتجة والمتظاهرة امام الهيئات والمؤسسات الديبلوماسية والاعلامية العربية والاجنبية الموجودة بخاصة في دمشق وحلب، مما جعل التشدد الامني واضحاً وقوياً في دمشق وحلب. وبين الاسباب الاخرى، التي ادت الى رسم لوحة التظاهر والاحتجاج في هذه المناطق على اساس زخم في المحيط ومحدودية في المركز، حقيقة، أن اقساماً كبيرة من سكان مدن دمشق وحلب والحسكة، هم من الوافدين من مناطق اخرى، وهم الذين تحيط بحيواتهم اهتمامات وهموم قد لا تتماثل مع ما يهم اخوانهم من اهالي هذه المدن. لقد رسمت حركة التظاهر والاحتجاج السوري ملامحها الاساسية، باعتبارها حركة الهوامش الحضرية والريفية اساساً على نحو ما تجسدت واضحة في درعا ومحيطها، وكان السياق الثاني في حضورها عبر انطلاقها من ارياف نحو مراكز المدن السورية الكبرى كما حدث في دوما وعربين والزبداني والمعظمية ودرايا والكسوة في محيط دمشق، ثم في امتداداتها الواسعة، كما ظهر في الاسابيع العشرة الاولى من حركات الاحتجاج والتظاهر. * كاتب سوري.