ليبيا لم تدخل «المرحلة الانتقالية» بعد، بل ما زالت ثورتنا تخوض «مرحلة التحرير» منذ منتصف شباط (فبراير) الماضي، وحتى إخضاع آخر موقع من مواقع النظام لإرادة الشعب. وليست دماء الليبيين الزكية التي لا تزال تسيل في ربوع ليبيا إلا دليل على ديمومتها، وهى قد تستغرق شهوراً، كما لا يمكن أن تبدأ «المرحلة الانتقالية» إلا بعد أن تتمكن الثورة من تحقيق الانتصار. لكل مرحلة أهدافها، فليس لمرحلة التحرير هدف غير تحرير البلاد، في حين يجب أن تحقق المرحلة الانتقالية شروط بناء الدولة الجديدة. ولكل مرحلة مهامها، فمهام مرحلة التحرير تتلخص في «حشد كافة الجهود والموارد الوطنية واستنهاض العالم لمساعدتنا في تحقيق النصر»، في حين تتركز مهام المرجلة الانتقالية حول «اختيار إدارة موقتة توفر المناخ اللازم لحوار وطني حول قضايا بناء النظام الجديد، من إعداد وإقرار للدستور والتوطئة لانتخاب المؤسسات السياسية للدولة في شكلها الذي سيتفق عليه الليبيون». وفي وقت ينتج الخلط بين أهداف المرحلتين ضبابية الخطاب السياسي وفقدان التركيز على الأولويات ما قد يؤدى الى فتور الحماسة بل وتبديد الطاقات، يقود انعدام التمييز بين مهام المرحلتين غالباً، الى اختناقات ناتجة من الاختلاف النوعي بينها، فمهام مرحلة التحرير هي من عوامل «الانتصار في الحرب» فيما مهام المرحلة الانتقالية هي من أسباب «نجاح البناء»، وهناك فروق بين النوعين تصل أحياناً الى حد التناقض. إن الحديث عن صياغة «الدستور» الآن وتحديد الزمن اللازم لذلك إنما هو من باب خلط المراحل، فالدستور يصاغ بعد الحوار وليس قبله، كما انه وثيقة مستقبلية لا يمكن استنساخها من الماضي، وهو لا بد أن يقوم على البحث العلمي التشريحي للمجتمع الليبي لتحديد مشاكله واحتياجاته التي سيأتي الدستور ليضع الأرضية القانونية لتناولها، إنه بداية لمرحلة جديدة لا تعنينا نحن فقط ولكن تعنى أجيالنا القادمة، لذا يجب أن يعطى كل الوقت والتركيز وبالتالي لا ينتمي الى مرحلة التحرير. إن وضع الدستور هو من ضمن مهام «المرحلة الانتقالية». كذلك فان أطروحات «إعادة البناء» والإلقاء بالأرقام والحديث عن خطط «ليبيا بعد القذافي» وربطها بوعود اقتصادية لدول بعينها، لا تنتمي لا الى مهام «مرحلة التحرير» ولا حتى «المرحلة الانتقالية»، بل هي من مهام «الحكومة المنتخبة» التي ستتولى الأمور بعد قيام النظام الجديد. وإذا كان «الانتصار على النفس أصعب من الانتصار على الأعداء»، كما يقول أرسطو، فإن تقصي نشاطات «المجلس الوطني الانتقالي» في ظل إقرارنا بديمومة «مرحلة التحرير» بأهدافها ومهامها، وتحت ضغط التضحيات الجسام التي يبذلها الليبيون في كل مواقع المواجهة مع النظام، قد يتيح مراجعة ونقد تلك النشاطات بهدف تحقيق مستويات أفضل من الأداء، وبالتالي الانتصار على النفس توطئة للانتصار على النظام. ولنبدأ بالتسمية، لأنها تحمل مدلولاً يتعلق بزمن تشكيل المجلس في الأسبوع الأول للثورة الذي سادته روح تفاؤلية بأن النظام سيسقط خلال أيام على الأكثر، الأمر الذي يترتب عليها فراغ سياسي يتوجب سده من خلال هيئة تتولى المسؤولية من لحظة سقوط النظام وحتى قيام النظام الجديد أي في «المرحلة الانتقالية»، لذلك سميت الهيئة «أو المجلس الوطني الانتقالي». إلا أن الثورة التي بدأت سلمية ثم تحولت تحت ضغط جهود النظام لتصفيتها جسدياً بالرصاص والصواريخ الى «حرب تحرير شعبية» يخوضها شعب يريد تحقيق حريته، ضد حكم متخلف يدافع عن مواقعه السلطوية بكل ما يمتلك من قوة، أدت إلى أن تكون مهمة المجلس الأساسية هي قيادة معركة التحرير. إن تحقيق مهام مرحلة التحرير المتمثلة في «حشد كافة الجهود والموارد الوطنية واستنهاض العالم لمساعدتنا في تحقيق النصر»، يستدعى ثلاثة واجبات رئيسية تتعلق بنوعية الخطاب السياسي، وتوطيد العلاقة بالجماهير، والعمل على تعزيز القدرات الذاتية. لا بد للخطاب السياسي أن يحمل الحقيقة الى الناس، وأن يصدقهم القول في أن النصر لن يأتي إلا بعد تضحيات جسام، وأن يحدد لهم واجباتهم من أجل تحقيق النصر. ولاستعارة مثال من التاريخ على ذلك، نقرأ خطاب ونستون تشرشل الى الشعب البريطاني عندما تولى مسؤوليته ولندن تقصف من ألف طائرة ألمانية كل ليلة»، قال: تسألونني ما هو برنامجي، أستطيع أن أحدده لكم في كلمة واحدة، إنه النصر، النصر بأي ثمن، النصر رغماً عن كل الأهوال، النصر مهما طالت الطريق أو صعبت، ذلك أنه من دون تحقيق النصر لن يبقى لنا تاريخ ولن تكون لنا أجيال قادمة ولا مستقبل. لكنني لا أملك ما أعدكم به إلا الدماء والشقاء والدموع والعرق، فنحن نواجه محنة شديدة الإيلام، كما أن أمامنا شهور طويلة من العمل الشاق والمعاناة». هذا هو نوع الخطاب السياسي الذي نحتاجه، خطاب صلب متماسك يعكس الواقع بكل صدق ويحمل الناس مسؤوليتهم، ويؤكد ضرورة النصر باعتباره الخيار الوحيد الذي لو قورن بالخطاب السياسي التطميني على طريقة «كله تمام»، الصادر عن بعض أعضاء المجلس والذي دأب على رفع سقف التوقعات على حساب الواقع والحقيقة بدعوى رفع المعنويات، والمتناقض أحياناً والمربك في أحيان أخرى، لاتضح أمامنا حجم الفجوة. إلا ان هذا النوع من الخطاب السياسي الصلب والمتماسك والواضح يحتاج الى قدرة ورغبة من المجلس في التواصل مع باقي الأطراف السياسية ومناخ مفتوح للحوار حول قضايا المرحلة، ويحتاج أيضاً الى درجة من الشفافية والعلنية، كذلك يحتاج الى وجود نظم للمحاسبة والرقابة، أي أنه يحتاج الى تبني الديموقراطية كآلية للعمل السياسي وضرورة إشعار الليبيين بأنهم أصحاب القرار، مع أهمية تركيز العملية السياسية داخل الوطن وعدم ترحيلها أو شق منها الى الخارج، وهو الأمر الذي لم يحدث أيضاً، فآليات صناعة القرار في المجلس غير واضحة، وبالتأكيد فان جزءاً من تلك الآليات مرحل الى عواصم إقليمية، كما إن الشفافية والعلنية ليست على المستوى الواجب، ويصعب وصف عمل المجلس بأنه يلتزم قواعد الديموقراطية بل إن هناك بعض التصرفات التي تقترب من ممارسات نظام التخلف كتعيين أعضاء مجالس محلية بطريقة الاختيار «من أعلى الى أسفل» أو إضافة أعضاء الى المجلس من دون معايير أو أسباب واضحة، كذلك فإن نثر بعض أعضائه لأرقام وبيانات لم يبذل أي جهد لتقصى تطابقها مع الواقع، كل ذلك يفتح الباب أمام تساؤلات كثيرة عن القدرات والدوافع، كما يقدم فهماً جزئياً للعجز عن حل مشكل التمويل الخارجي. يمثل الخطاب السياسي المتماسك والواضح بالإضافة الى التواصل النشط مع الناس من خلال أداء ديموقراطي منفتح، مفتاحي قدرة المجلس على تحفيز الناس على بناء القدرات الذاتية للثورة، فالليبيون الذين لم يتأخروا عن تقديم أرواحهم على مذبح الحرية قادرون على إنشاء «وديعة وطنية للتحرير» ومدها بملايين الدنانير، فهم قد بذلوا المال من قبل في شكل تخطى كل التوقعات عندما خلعت أمهاتنا حليهن لدعم الثورة الجزائرية أو عندما تبرع تجارنا بعقاراتهم ومردود تجارتهم وتسابق البسطاء بما يكتسبون، دعماً لثوار فلسطين، تفاعلاً واستجابة لخطاب سياسي واضح ومتماسك ولشعورهم بأنهم أصحاب القرار والمسؤولية، الأمر الذي يمكن أن يتكرر أو حتى يتخطى ما فعلوه في السابق. لا يحقق توفير المال من مصادر ذاتية القدرة على بناء «جيش التحرير» أو استيعاب اللاجئين الليبيين في المنطقة المحررة من بلادهم فحسب، بل أيضاً ولكنه يجسد كرامتنا الوطنية ويحقق اعتزازنا بأنفسنا كليبيين ويعيد التوازن الى علاقاتنا بالأطراف المانحة وبالتالي يستعيد لقرارنا السياسي والاقتصادي قدر أكبر من استقلاليته ويعطينا نصيب أكبر في تحديد شكل المستقبل ويحصنه من المخططات غير المعلنة، كما يحول مفهوم «اقتصاد الحرب» الذي يطل علينا بين الحين والآخر من خانة التسول الى خانة استنهاض الذات. جاءت الثورة كنتاج منطقي لسياسات نظام الجهل والتخلف، ولن يتوانى الليبيون عن تقديم التضحيات اللازمة لتحقيق النصر، كما لن يكون مستقبل ليبيا إلا نتاجاً منطقياً لمجريات الثورة، من هنا يكتسب النقاش الصريح حولها أهميته، كما يجب أن يحتفى به، باعتبار أن الأوقات العصيبة في حياة الشعوب ومنها «مرحلة التحرير» التي نخوضها هي التي تمكنها من اكتشاف قدراتها ومواهبها، وتستنهض فيها طاقات لم تكن تعرفها، كما تؤدي الى بلورة قيم إنسانية متقدمة، كل ذلك من خلال التناول النقدي والحوار وقبول الآخر واعتماد الديموقراطية كأسلوب للعمل سياسي. * سياسي ليبي وخبير في شؤون النفط والبيئة