يحسب لثورة 17 فبراير، أنها قدمت نموذجاً فريداً في حركتها لتحرير ليبيا وإعادتها كوطن لليبيين، بعد أن تم اختطافها لمدة 42 عاماً، وقد تضافرت لتحقيق هذا الهدف جهود معظم أبناء ليبيا، فلا يسعنا إلا أن نحيي أولئك الذين استشهدوا في سبيل هذه المهمة النبيلة، وكذلك المقاتلين على كل الجبهات، وكل من بذل جهداً في هذا السياق الوطني في مختلف الميادين. ولعل ما يثير الانتباه، ونحن لا نزال في الطريق إلى إنجاز حلم الدولة الوطنية، دولة كل المواطنين، تلك الأصوات التي بدأت تعكس مواقف أيديولوجية وتتضمن دعوات إقصائية صريحة لهذه الشريحة أوتلك من الليبيين، مع ما تحمله هذه المواقف وتلك الدعوات من خطر يتهدد نجاح الثورة في ليبيا ويعقد عملية الانتقال إلى وضع ديموقراطي يتسع للجميع، سواءً عبر المشاركة في صنعه، أو من خلال تعميم فوائده على المجتمع الليبي بأسره دون تمييز. ولأن اللحظة التاريخية تتطلب منا، كليبيين، أن نكون على مستوى ما تطرحه التحديات، وأن نملك الجرأة اللازمة، ليس للوقوف في وجه تلك المواقف المتسرعة، بل ومنع تعميمها وانتشارها في السياق الليبي الخارج لتوه من رحم ثورة قامت ضد التهميش والإقصاء والرعونة السياسية، فإنه من نافلة القول التذكير بأن هذا النهج الإقصائي لشريحة من المواطنين من شأنه أن يعيد الأمور إلى مربعها الأول، حيث سيطرة المزاجية السياسية التي طالما عانى منها المجتمع الليبي ودفع في سبيل التخلص منها دماءً زكيةً. كما ينبغي التذكير بأن هذا النمط من التعاطي السياسي يشكل وصفة أكيدة لإجهاض منجزات ثورة 17 فبراير التي نحسبها، حتى اللحظة، في الروح الوطنية الناهضة في عموم الوطن، حيث يتحفز كل مواطن إلى المشاركة الفعالة في صنع ليبيا المستقبل والتي نرى أنها تتسع للجميع، كما أنها أكبر من الجميع، وتحتاج إلى تضافر جهود أبنائها، اللهم باستثناء أولئك الذين استولوا على المال العام، أو من تلطخت أيديهم بدماء الليبيين وتسببوا بعذاباتهم، أو مجرمي الحرب الذين ارتكبوا مجازر جماعية في حق الليبيين مقاتلين كانوا أو مدنيين، فتلك خطوط حمراء لا ينبغي تجاوزها في نظر الليبيين، وقد أكدها أكثر من مسؤول في المجلس الوطني الانتقالي. لا شك في أن ما نقل عن الأخ إسماعيل الصلابي ودعوته إلى المجلس الوطني الانتقالي ولجنته التنفيذية بالاستقالة، يشكل نذر خطر أكيدة، يتمنى المخلصون لليبيا أن لا يكون صحيحاً، أما في حال صحته، فإنه يمثل مؤشراً غير صحياً، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى الوحدة وتجاوز خطر التقسيم الذي حاول النظام السابق معاقبة ليبيا به بعد أن أعلنت الثورة استعادة الوطن والمواطن! وعلى رغم إصرار الليبيين على تجاوز مرحلة عبادة الشخص والتماهي المطلق معه، يجب ألا يعني ذلك سلب الناس حقوقهم، وإلا لما احتفلت الأمم برجالاتها الذين أضاؤوا لها دروب المستقبل، وفكوا أسرها من الانعتاق والاستبداد والظلم، خصوصاً شهداء الوطن. وفي السياق نفسه، فإنه لا يمكن إنكار جهود القائمين على المجلس الوطني الانتقالي أو لجنته التنفيذية لما بذلوه من جهود يشهد لها العدو قبل الصديق في هذه المرحلة، فقد استطاع مصطفى عبد الجليل، هذا الليبي الفاضل، والذي أجمع عليه الليبيون، قيادة المرحلة باقتدار، وينبغي دعمه بكل الوسائل لإيصال السفينة الليبية إلى بر الأمان، كما لا يمكن تجاهل دور الدكتور محمود جبريل الذي قدم وجهاً مشرقاً للمسؤول الليبي أظهر من خلاله القدرات الخلاقة والمبدعة لليبي بعد أن عمل النظام السابق على إخفاء أي امتياز لأي ليبي كان، ألا يكفي أن يتصدر الرجل قائمة من تحاول عناصر القذافي اغتيالهم؟ ولو نسي الليبيون فإنهم لا ينسون تلك الجهود الديبلوماسية الهائلة التي قدمها الأستاذ عبد الرحمن شلقم، والذي سخر كل إمكاناته، كمفكر وأديب وديبلوماسي محترف، لخدمة قضية بلاده، وكانت كل هذه المعاني تكثفت في الكلمة المدوية في مجلس الأمن وفي ظروف دولية غاية في التعقيد، والتي استطاع الشعب الليبي من خلالها الحصول على حق الحماية الدولية من نظام أعلن، جهاراً نهاراً، نيته ملاحقة الثوار زنقة زنقة داراً داراً. إن تصوراً، افتراضياً، بسيطاً لسياق الأمور، من شأنه أن يكشف مدى خطورة التصريحات غير محسوبة وأثرها السلبي على مسار الحدث الليبي، فماذا لو استبدلنا الخطاب السياسي والديبلوماسي الذي خاض به هؤلاء المناضلون المعركة السياسية على المسرح الدولي والتي نالت إعجاب كل المهتمين وأدت إلى اعتراف المجتمع الدولي بشرعية الثورة الليبية وحمايتها، بالخطاب السياسي والإعلامي للأخ الصلابي (لا سمح الله)، ترى ألن يؤدي ذلك إلى إعطاء شرعية لنظام القذافي لمحو بنغازي ومدنها من الخريطة الليبية والقضاء على تطلعات الشعب الليبي بأكمله، وبتهليل من المجتمع الدولي على خلفية الادعاء بالإرهاب والانتماء إلى «القاعدة». من البديهي القول، إن ليبيا التي لا يتجاوز عدد سكانها ملايين معدودة، بحاجة اليوم لكل أبنائها، وهذا حقها عليهم، تلك الخبرات والكفاءات التي تدربت وتعلمت حان الوقت للاستفادة منها، ولا يجوز تصنيف المواطنين على أسس تتسبب في الإساءة لوحدة الصف الوطني، والغريب أنه في مصر التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 80 مليوناً، وفيها ملايين الكوادر التي كانت تعمل في ظل النظام السابق والمحسوبة على حزبه، لم يسمع فيها مثل تلك الدعوات الإقصائية. ثورة السابع عشر من فبراير لم تأت لتنتقم، جاءت لتحرير المواطن والمجتمع من عقدة الخوف والإذلال ولتترك لأبناء ليبيا حرية الاختيار، فما حدث في ليبيا تحول عظيم بشتى المقاييس، استطاع فيه الشعب هزيمة السلطة والقوة معاً، في حين ما حدث في تونس ومصر أن الشعب استطاع هزيمة السلطة بينما فضلت القوة المتمثلة في الجيش الحياد. ما نحتاجه في هذه المرحلة البدء فوراً في عملية مصالحة لترميم الوحدة الوطنية والبدء فوراً في عملية البناء، والاستعداد للانتقال إلى دولة المواطنة التي يتطلع إليها كل الليبيين، كما يجب أن نشير إلى أن طبيعة المرحلة القادمة تتطلب جهداً تلقائياً إعلامياً لتدريب الليبيين على ممارسة الديموقراطية وحق الاختلاف، فالديموقراطية قضية ثقافية قبل أن تكون آليات وأنساقاً ونظريات جامدة. * سفير ليبيا لدى سورية