أبرزت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في مصر العديد من الظواهر التي تستحق التوقف عندها، سواء على صعيد المشاركة السياسية التي يمكن القول إنها جاءت أقل نسبياً (نحو 44 في المئة)، بالقياس إلى توقعات متفائلة بنسبة مشاركة تقترب من ال 60 في المئة. أو على صعيد درجة التنافسية بين المرشحين اللذين خاضا غمارها وجاءت نسبة التصويت لهما (96 في المئة) مقابل (4 في المئة) تقريباً، وهي تنافسية تمثل تراجعاً ليس فقط قياساً إلى انتخابات 2012، ولكن أيضاً بالقياس إلى انتخابات 2005. أما الانخفاض النسبي على صعيد المشاركة، فيمكن إرجاعه لإشكاليات أساسية عدة: أولها مقاطعة التيار الإسلامي عموماً للعملية الانتخابية، جماعة الإخوان لأسبابها المعروفة، والقوى الأخرى المنضوية في تحالف دعم الشرعية تعاطفاً معها ودوراناً في فلكها، بل إن حزب «النور» المفترض مشاركته في التحالف المؤسس ل»خريطة الطريق»، جاءت مشاركته رمزية، وبات واضحاً مدى انفصال قياداته الأكثر قرباً من نظام الحكم الانتقالي، عن قواعده الأكثر تعاطفاً مع عموم التيار الإسلامي. وسواء لأن هذا التيار يمثل كتلة تصويتية معتبرة، أو لارتفاع قدرته على الحشد، كان طبيعياً أن يؤدي غيابه إلى إضعاف ملحوظ لنسبة المشاركة. وثاني هذه الإشكاليات يتعلق بالمخاوف المتنامية لدى البعض من ذوي الحساسية العالية إزاء قضية الحريات في مصر، وهي المخاوف التي طالما تجاهلها الخطاب الرسمي، سواء السياسي أو الإعلامي الذي يدور في فلكه، حكومياً ومستقلاً. فما بين سجن نشطاء وثوار لعبوا دوراً مركزياً في 25 يناير حتى وإن ارتكبوا أخطاءً بالقياس إلى قانون لا يجمع عليه المصريون، بل ويراه البعض ظالماً، مطالبين بتعديله، مروراً باعتقالات عدة من دون محاكمات جادة، وصولاً إلى منع كاتب بحجم فهمي هويدي، يختلف الكثيرون معه ولكنهم لا يختلفون على قيمته، من السفر إلى مؤتمر دولي من دون أسباب واضحة، على نحو أعطي هدية مجانية لكل معارضي «خريطة الطريق» في الداخل والخارج للتشويش عليها، يشعر الكثيرون بالخوف على مستقبل الديموقراطية في مصر من مخالب الدولة الأمنية. أما ثالث هذه الإشكاليات فيتمثل في استعادة بعض الوجوه المنسوبة لنظام مبارك لمواقعها القديمة وعلو صوتها في الإعلام على نحو صار مستفزاً، بل إن كثيرين من تلك الوجوه احتل مواقع مهمة في حملة السيسي الانتخابية. ولعله صحيحاً أن تلك الوجوه البارزة في حملته ليست موصومة بالفساد، وأن بعض الوجوه تتحدث باسمه من دون تفويض ولكن على سبيل الادعاء، والبحث الانتهازي عن موضع قدم في مصر الجديدة، وأن الأصوات الإعلامية النشاز التي تسرف في مدحه وتملقه إنما تفرض نفسها عليه من دون طلب منه، وربما من دون رغبته. ولكنه في المقابل لم يسع لتمييز نفسه عن هؤلاء أو أولئك اللهم سوى في ما ندر، وفي سياق يتسم بالعمومية، وهو أمر يثير مشاعر غضب لدى كثيرين، ومشاعر سخط لدى الشباب، خصوصاً، الذين صاروا يشعرون أنهم يدفعون أثماناً لسلعة لم يحصلوا عليها بعد، وربما لا يحصلون عليها أبداً. لقد أثيرت مشكلة تراجع شعبية 30 حزيران (يونيو)، وتآكل الجبهة الوطنية التي أنجزت «خريطة الطريق» في 3 تموز (يوليو)، إبان الاستفتاء على الدستور قبل أشهر، ولكن الحوار حولها لم يكن جاداً، حتى أن الخطاب الرسمي، السياسي والإعلامي، نفى وجودها من الأصل، تعويلاً على أن الاستحقاق الرئاسي أمر مختلف، وأن الكتلة الشعبية الواسعة ستنزل لأجل السيسي، ولكن المشكلة فاجأتهم مرة أخرى على الطريق الرئاسي، الأمر الذي أثار ارتباكاً، ودفع باللجنة العليا للانتخابات لتمديد التصويت ليوم إضافي، ربما زاد بقدر من نسبة المشاركة، ولكنه قلل بقدر أكبر من جاذبية العملية كلها، وأصابها بنوع من الترهل، ربما كان كاشفاً عن مدى ضعف خبرة اللجنة وعدم إلمام أعضائها، على رغم قاماتهم الكبيرة قضائياً، بالظروف السياسية والمهارات الانتخابية، وهو ما يشي بحاجة مصر إلى تأسيس مفوضية عليا دائمة للانتخابات يكون لديها من المهارة ما يكفي لإنجاح الاستحقاقات الديموقراطية المقبلة. أما قضية التنافسية بين المرشحين فلها وجهان أحدهما إيجابي والآخر سلبي. أما السلبي فيتمثل في غياب التعددية والحيوية التي ميزت انتخابات 2012، سواء في الجولة الأولى حينما توزعت الأصوات على خمسة مرشحين أساسيين، أو في جولة الإعادة حينما بلغت المنافسة أوجها وتفوق الرئيس الإخواني بأقل من 2 في المئة. هذه التعددية أولاً، وارتفاع حدة التنافسية ثانياً، منحا الانتخابات السابقة ألقاً وحيوية وإثارة افتقدتها الانتخابات الأخيرة التي كانت نتيجتها مضمونة سلفاً. ولعل ذلك الجانب هو أحد الأسباب لضعف المشاركة السياسية على صعيد الداخل، وضعف الجاذبية على صعيد الخارج، وكلاهما أمر لا يمكن إنكاره، ويمكن اعتباره انتكاسة (موقتة) على طريق الديموقراطية في مصر فرضتها التحديات الأمنية وضرورات مواجهة الإرهاب وما تثيره من هواجس الاحتياج إلى الرجل القوي أكثر من الرجل السياسي، حيث اختار المصريون المشير عبد الفتاح السيسي (التجربة) بأكثر مما اختاروا عبد الفتاح السيسي (الشخص)، ودفع حمدين صباحي ثمناً باهظاً لتآكل النخبة السياسية طيلة العقود الماضية، ولضعف ثقة الجماهير بها. وأما الوجه الإيجابي فيتمثل في غياب الاستقطاب الكبير الذي حكم الانتخابات السابقة، والعام التالي حتى سقوط حكم الجماعة في 30 يونيو، حيث دارت الانتخابات الماضية في سياق صراع واضح بين القوى المدنية، والقوى المنتمية إلى التيار الديني، على تعدد أشكال حضورها. وعندما فاز المرشح الإخواني بنصف الأصوات تقريباً، كان المعنى الكامن هو استمرار حال الاستقطاب، بل ونما الانقسام إلى درجة الاحتقان بفعل توجهات الجماعة التالية نحو أسلمة الدولة، واختراق مؤسساتها، وهو أمر أثبت حقيقة طالما كانت قائمة وهي أن (ديموقراطية الصناديق) من غير علمنة سياسية، تفصل المقدس الديني عن المدنس السياسي، ومن دون نزعة فردية عميقة، تبقي قنبلة موقوتة، قابلة للانفجار في وجوه من يمارسونها، وهو ما حصل حينما بدت مصر مقبلة على نمط حكم يقسم شعبها على أسس طائفية، ومذهبية، ويغير من نمط اجتماعه المتمدين إلى نمط جديد، يخنق الحرية الشخصية لصالح نزعة طهرانية تعتقد بقدرة الدولة على فرض الأخلاق المحافظة. مع غياب الاستقطاب الديني - العلماني، يمكن القول إن الانتخابات الأخيرة دارت على أرضية علمانية سياسية معتدلة، بين مرشحين ينتميان للدولة الوطنية الحديثة، وللثورة المصرية معاً. فالمشير السيسي هو رجل الدولة بامتياز، أتى من قلب أصلب مؤسساتها عوداً، وأقدرها على الاستمرار التاريخي بعد زلزال 25 يناير، الذي أودى بكثير من أعمدتها وأربك معظم مؤسساتها. إنه رجل الدولة الذي وقف بجانبها، وحافظ على روحها الوطنية ضد تغول الجماعة الدينية الحاكمة، فاكتسب شرعية ثورية مضافة بفضل 30 يونيو، و3 يوليو، ومن ثم بدا حائزاً لشرعيتين إحداهما أصلية كونه رجل الدولة بامتياز، والثانية مضافة، كونه رجل ثورة بالانتساب. أما حمدين صباحي، فهو رجل الثورة بامتياز، مناضل سياسي منذ نعومة أظافره، عارض النظام المصري في مرحلتيه الساداتية والمباركية، ودافع عن حقوق العمال والمهمشين، وعن حرية الشباب من النشطاء والثوريين، كما لا يزال يمثل تياراً يسارياً ناصرياً ذا وزن في معادلة الفكر والسياسة المصريين. ولكنه أيضاً ابن شرعي للدولة الوطنية الحديثة، وينسب نفسه إلى إحدى أهم حلقاتها التأسيسية الممثلة بالمشروع الناصري، والذي اتخذ المنتمون إليه موقع المعارضة منذ رحيل رمزه الكبير. وهكذا يكون السيد صباحي حاملاً كذلك لمشروعيتين، مع تبادل في الموقع بين الشرعيتين، فالأصيلة هنا هي الثورة، والمضافة هي الدولة. يعني هذا أن مصر قد استبدلت في عام 2014 مرشحين ينتمي كلاهما حقاً للدولة والثورة معاً، مع اختلاف واضح بينهما في التركيبة أو الخلطة السحرية، بمرشحي عام 2012 اللذين انتسبا زيفاً للدولة والثورة، فكان انتماء أحدهما (أحمد شفيق) للدولة بمعناها السلبي الذي يختزلها في نظام قديم بائد، كما كان انتماء الثاني (محمد مرسي) للثورة من موقع انتهازي، أراد اللحاق بها رغم تناقضه الجوهري مع قيمها. ويعني كذلك أن مصر تمكنت لتوها من عملية فرز مؤلمة بين الذين يمكن أن يمثلوها، سواء من ناحية الدولة أو الثورة، فمرشح الدولة هذه المرة يحمل ملامح الدولة المصرية من دون أن يتورط في تجسيد نظامها البائد، ومن ثم ينتمي بقدر ما لقيم ثورتها. أما مرشح الثورة هذه المرة فينتمي حقاً لقيمها، ويعبر عن أجيالها الجديدة، ومن ثم ينتمي جوهرياً إلى قيم الوطنية المصرية. هذا الفارق هو ما صنع صورة التنافس الذي عشناه بالأمس، صحيح أنه كان أقل حدة وإثارة لأنه أقل تعددية. ولكنه في المقابل تنافس رشيد، يدفع الناخب إلى الاختيار بين الجيد والأجود، أملاً في غد أفضل، قياساً إلى ذلك التنافس غير الرشيد الذي عشناه قبل عامين، والذي كان يدفع الناخب إلى التصويت يأساً، على طريق الاختيار بين السيئ والأسوأ، حيث يقوم التنافس هذه المرة على أرضية صلبة من قيم الحداثة السياسية كالدولة القومية، والعلمانية، وربما النزعة الفردية، على نحو يضمن أن لا تكون هناك ارتدادات تاريخية مؤلمة، وأن لا تكون الصناديق حبلى بقنبلة موقوتة. * كاتب مصري