مَن يبدأ بقراءة رواية الكاتب الفلسطينيّ شاكر خزعل يظنّ أنّها رواية مليونير أميركيّ مرفّه لم يتعلّم في حياته سوى فنّ الانتصار. فالصفحات الأولى لرواية «حكاية تالا»، The Tale of Tala (مكتبة هاشيت -أنطوان، 2017) هي صفحات تبجّح و «تفلسف» حياتيّ، مكتوبة بِخطّ يد إنسان ميسور الحال لم يعرف يومًا الحياة الجارية خارج برجه العاجيّ. فتبدأ الرواية بوصف حياة هنري الأرستقراطيّة. وهنري شاب مدلّل ولد لعائلة فاحشة الثراء، لم يتعب ولم يشقَ ولم يعرف يومًا أيّة عقبات أمام نزواته وطلباته. ومع وفاة والده، يتبع هنري أهواءه ويقرّر احتراف الكتابة. فتقوده صنعة التأليف هذه إلى تالا، الفتاة الفلسطينيّة التي تضطرّ إلى الادّعاء بأنّها سوريّة لتنال الحقّ باللجوء لأنّ المأساة السوريّة وحدها باتت تستأثر بالاهتمام العامّ بينما التشرّد الفلسطينيّ تحوّل إلى موضة بائتة ولّت أيّامها مع انتهاء القرن العشرين. وتنجلي الأمور رويدًا رويدًا مع الانتقال إلى الفصل الثاني من الرواية. فيتحوّل هنري إلى قارئ آخر، إلى متفرّج موقّت يتابع قصّة تالا ومأساتها بنهم، تارةً ليفهم مصدر قوّة هذه الفتاة وصلابتها، وطورًا ليملأ صفحات كتاب جديد يكتبه ويريد تالا بطلة له من دون أن تعلم. فتسرد تالا قصّتها بواقعيّة باردة صادمة. تسرد مجريات حياتها البائسة التي تنقلها من وضع سيّء إلى أسوأ وذلك كلّه بتماسك وتجرّد يثيران استغراب هنري. فقدرة تالا هائلة على السرد بهدوء، وكأنّها تسرد مأساة امرأة أخرى بعيدة عنها لم تعرفها ولم تلتقِها يومًا. ومع تقدّم السرد يفهم هنري سرّ برودة تالا عند إخبارها قصّة حياتها على رغم أنّ الأحداث هي من البؤس بمكان: الإنسان الذي لم يعرف سوى الخسارة في حياته ولم يعد لديه المزيد ليقدّمه على مذبح الحياة، يصبح حرًّا. الخسارة تحرّر. البؤس الحقّ لا يحتاج إلى رفيق. يعزّي نفسه بنفسه ويترك الحياة تمرّ به. وكأنّها غير مهمّة. وكأنّه غير موجود. ظلمة المخيّمات وظلم أوروبا ولدت تالا ونشأت في مخيّم فلسطينيّ في لبنان على غرار الكاتب خزعل. وفي خضمّ سردها قصّة حياتها تتحوّل تالا الشخصيّة المحور والبطلة إلى راوية، فيتابع هنري والقارئ تفاصيل نشأتها ويعاين الإثنان عبرها الظروف الحياتيّة لأهل المخيّم. فتكشف تالا عن البؤس الاجتماعيّ والعائليّ والتربويّ والعمليّ. تسلّط الضوء على سوء أوضاع العائلات المقيمة في مساحات جغرافيّة ضيّقة، فسحات الأمل فيها أضيق بعد. فيختصر السرد حياة أهل المخيّم وتصرّفاتهم اليوميّة وردود فعلهم على صعوبات الحياة بكلمة واحدة: اليأس. إنّ فلسطينيّي المخيّم محكوم عليهم باللجوء الأبديّ واللا انتماء. وفي ظروف الفقر وانعدام فرص العلم والعمل، يجد الفلسطينيّ نفسه أمام الجريمة والتهريب والانضمام إلى الجماعات الإرهابيّة. حلول غير قانونيّة تقوم بأوده وتنقذه من براثن الجوع والفقر والموت. الإنسان الذكيّ والموهوب والحالم نفسه يغرق في وحول المخدّرات وما سواها من أعمال مشبوهة. يأس مستشرٍ وسجن قسريّ لا مفرّ منه يبرّر الجرائم كلّها ويحوّل العقاب إلى إجابة غير إنسانيّة. كيف يعاقب المجتمع ضحاياه؟ لماذا يعاقبهم من قبل أن يولدوا؟ لماذا يدفعهم إلى أحضان الجريمة ثمّ يجلدهم؟ تروي تالا المخيّم بجهله وفقره وحرمانه وتديّنه وقسوته. تصف ظلم رجاله وخنوع نسائه. تصف التزمّت والتمسّك الأعمى بالمظاهر الدينيّة الذي لم يكن ليستمرّ لولا البؤس. ثمّ تنتقل الحكاية ببؤسها إلى تركيا ومنها إلى أوروبا حيث يستمرّ الظلم إنّما متجلّيًّا بمظاهر أقسى بعد... إن أمكن. يظنّ القارئ من خلال صفحة الغلاف أنّ البحر هو الخلاص، فتالا الواقفة أمامه بطهارتها البيضاء قد تجد بعبوره خلاصها والهناءة من بعد طول عذاب. إنّما يتبيّن أنّ العكس هو الصحيح. فتصل تالا إلى الشواطئ الأوروبيّة بعد طول صراع مع الموت وتظنّ أنّها بوصولها إلى البرّ نجت. يقع الحجاب عن رأس فاطمة اللاجئة الفلسطينيّة الهاربة ويحوّلها البحر إلى تالا، امرأة جديدة مستعدّة للإمساك بزمام أمورها. وبينما تكون المياه عمومًا رمز التطهّر والعماد والولادة الجديدة، تصبح المياه في قصّة تالا عقبة جديدة تتخطّاها البطلة لتنتقل منها إلى واقع أقسى وأقبح. فبينما ينفتح البحر أمام موسى ليجسّد بداية جديدة وتحقيقًا لوعد إلهيّ، ينفتح البحر أمام تالا على تجارة الأعضاء وتجارة النساء وأعمال الخطف والوعود الكاذبة. ينفتح البحر على أرض موت يوميّ، وانضمام قسريّ إلى شبكات الدعارة والإرهاب والجرائم. الحبّ وحده وضع الكاتب الفلسطينيّ- اللبنانيّ- الكنديّ شاكر خزعل روايته بالإنكليزيّة في نحو مئتين وخمسين صفحة، تنقّلت فيها الشخصيّات بين نيويورك وأمستردام وسلوفينيا ولبنانوتركيا. وجاء السرد المشبّع بالوصف وبالعودات إلى الوراء ذا وظيفة عرضيّة تفسيريّة. كتب خزعل لقارئه الذي لم يعش في المخيّم. كتب لقارئه الذي يمثّل اللاجئون في مخيّلته مجرّد أرقام سمع عنها في نشرات الأخبار. كتب خزعل ليمنح قصّةً ووجهًا وحياةً وسماكة نفسيّة وحزنًا ويأسًا ووجعًا لأولئك الذين يجمعونهم تحت عنوان واحد: «اللاجئون». وجعل خزعل شخصيّة هنري الصورة المضادة تمام التضاد لصورة تالا، ورسم ثراءه الفاحش كضرب من ضروب اللا واقع المبالغ فيه. ويستغرب القارئ لماذا شاء خزعل خلاص بطلته على يد كاتب استغلاليّ ورجل أعمال رأسماليّ أميركيّ؟ لقد هرب خزعل من الحلول الأدبيّة والاجتماعيّة لروايته عبر جعل هنري الحلّ المثاليّ لكلّ شيء. وكأنّه أراد لهذا الثريّ الأميركيّ أن يصبح إلهًا جاء يساعد بائعة الهوى الفلسطينيّة المسكينة ويعيد إليها الحياة والأمل. وقع خزعل في فخّ النهاية السعيدة السهلة the happy ending. أوقع سرده المشحون بالحزن والواقعيّة القاسية في فخّ نهاية بسيطة عفويّة ساذجة احتوت من اللا واقعيّة ما يصدم القارئ. سرد خزعل ووصفه للواقع الفلسطينيّ جاءا من خبرته الشخصيّة والوجع الذي عاينه في حياته عن قرب في محيطه ومجتمعه. لكنّ نهايته وتسلسل أحداثه السهل فضحا حلمه الزهريّ الذي يبدو أنّه لم يغادره على رغم ما رآه حوله من بؤس. وكأنّ الكاتب أراد الفرار من الواقع القبيح بخلق هنري، البطل الأميركيّ المنقذ الذي يحلّ أيّ أمر بملايينه وسرعة بديهته. وقد يبرّر القارئ هذه النهاية، فليس بالضرورة أن يؤخذ على الكاتب ميله إلى النهاية السعيدة، ففي عالمٍ مليء بالبؤس والسوداويّة والجريمة، وحدها الأحلام بالحبّ المثاليّ هي التي تجعل العيش ممكنًا.