لعل العفوية في الأداء والعمق الفني هما اللذان دفعا بالمشاهد للاندماج في أحداث فيلم «زهرة الصبار»، الفيلم الذي عرض ضمن مسابقة «المهر الطويل» في الدورة ال14 لمهرجان دبي السينمائي 2017، ونالت عنه الممثلة منحة البطراوي (ناقدة ومخرجة مسرحية، مثلت في فيلم «سرقات صيفية» وظهرت في فيلم «مرسيدس»، و«إسكندرية كمان وكمان»، و«المهاجر»)، لعل هذا التعريف الخاطف يشير إلى أهمية هذه الفنانة القليلة الحضور والمؤثر في آن واحد، فهي من رعيل ممثلي يوسف شاهين الذين كان يختارهم بدقة لتلقائيتهم البالغة. إذ نالت جائزة أفضل ممثلة وقادت الفيلم للنجاح. لكن من المؤكد أن قدرات المخرجة وموهبة هالة القوصي مكنتها من إدارة ممثليها: «سميحة» (منحة البطراوي)، و«عايدة» (سلمى سامي)، و«ياسين» (مروان العزب). لتقدم فيلم نابه في جمال لغته وأسلوبه المازج بين الواقعية الحديثة والتوليفات البصرية المابعد حداثية، تلك المنتشلة من الفن المفاهيمي أو من فن الأداء. ولأن مخرجته، وهي كاتبة السيناريو أيضاً، قادمة من ذلك العالم التشكيلي المعني بالصورة والتأويل والذي حط بها أمام فن السينما المفتوح على استثمار وتوظيف جميع الفنون، تغلبت حاستها البصرية ولم تقدم توشيحاتها التشكيل/ بصرية بمعزل عنه، إدخالها بشكل سلس يتفق مع السرد ويمنحه أفقاً تأويلياً أوسع، أو يضيف إليه معانٍِ لا تخل بالسياق الدرامي، بما يدفع بالمشاهد إلى التحليق للوصول إلى المفهوم. ما يرويه الفيلم يصب في أزمة بطلة فيلمها «عايدة»، التي تحمل روحاً طموحة وإرادة عنيدة في تجاوز واقعها المحبط الممتد إلى جذور سنوات الطفولة وحتى بدايات شبابها وانتهاء بوعيها عما آلت إليه بعدما نضجت، أخذت تكافح لتحقيق ذاتها، رافضة الرضوخ لإرادة أهلها في أن تكون طبيبة بينما تريد أن تصبح ممثلة... من هنا جاءت منطقية توظيف المشاهد التشكيلية التعبيرية لتبدو وكأنها مقتطفات من خيالات مسرحية تدور في عقلها الباطن أو حتى في خيالاتها الواعية، فالتمثيل والمسرح يعتملان في عقلها الباطن. ولما فشلت في إخفاء مشروعها الشخصي قاطعها أهلها، وأيضاً لما فشلت في أن تكون ممثلة، خرجت لتبحث عن بصيص أمل يحقق لها حلمها أو يآزرها على الأقل في التخفيف عنها، فجاورت السيدة «سميحة» التي تعيش وحيدة، بعد أن رحلت عن شقيقتها، باقية على ماضٍ استمتعت فيه، فتروي لصديقها القديم «مراد» (زكي عبد الوهاب)، الذي رفض الزواج منها، عندما كانت تُلقب ب«المغناطيس» بسبب جاذبيتها. في ثنايا الفيلم نشاهد «عايدة» وهي تهتم بنبتة زهرة الصبار التي زرعتها في شرفة منزلها، ربما لأنها تعتز بها لأنها نبتة تعتمد على قوتها في التشبث بالحياة من دون كثير من الرعاية أو السقاية، أو لأنها أكثر شبهاً بالحياة الجافة التي تعيشها، برمزية شح المياه والبيئة المحيطة بها، بما تحمله تلك الرمزية من نضوب الماء الباعث للحياة في كل شيء... ولكن كل ذلك الجفاف يتوج بطرد «عايدة» و«سميحة» من صاحبة البناية، بسبب عجزهما عن سداد الإيجار، ليجدا نفسيهما في الشارع. وفي الشارع تلتقيان بالشاب «ياسين» (مروان العزب) أو (الواد الحليوة)، كما نعتته سميحة، ربما لأنه يمثل شيئاً من حلاوة تطعم حياتهما المرة، فهو حلو القسمات وحلو الروح، وبه يتكون ثلاثياً يعكس معاني الصداقة والتآزر والألفة، إذ رمزت علاقتهم، أو يمكن تأويل ذلك التشابك الثلاثي إلى وضع مصر في ثلاث حقب: «سميحة»، تمثل الماضي البعيد الممتد إلى العهد الملكي المصري، بكل ما فيه من وجود حضاري ورقي وإخفاقات، و«عايدة» بما تمثله من منعطفات مر بها الشعب المصر إبان مرحلة الضباط الأحرار وأتباعهم (نجيب، وجمال، والسادات، ومبارك والسيسي)، وياسين (الحليوة)، بما يحمله من أمل وطموح وخير مرجو في المستقبل.. إنها المحبة التي تؤازر أزمات الإنسان المصري المعاصر. تبحث «عايدة»، وجارتها عن مأوى، ومجتمع يحويهما، بعد أن أصبحتا لاجئتين في الشوارع، فيما تلتقي ب«هند» (فرح المصري)، صديقتها القديمة في الدراسة، الموهومة بحياة زائفة تتخذ من التدين الشكلي أسلوباً لها، فتطلب لعايدة الهداية بنبرة دينية مصطنعة، وفي جانب آخر تتعثر علاقة «عايدة» بحبيبها «أحمد» (صدقي صخر)، بعد ما يرفض الزواج منها، كونه صاحب قناعة بأن «الممثلة سيئة السلوك ورخيصة»؛ المنطق الذي تتمسك به قطاعات عدة في المجتمع. ولكن المخرجة لا تقدم ذلك في قالب الاعتراض والامتعاض أو الازدراء إنما في إيحاء طفيف بطرح سؤال: لماذا يحدث هذا؟ وما الذي قادنا إلى هذا؟ لذا جاء عملاً سينمائياً متسماً بحساسية واضحة، بل وبعمق فني وفكري كبيرين. شخصية «باسم» (باسم وديع) الحاد في طباعه أو الواقع تحت تأثير اكتئاب نفسي بعد مروره بأزمة عاطفية مع صديقته الألمانية، وظهوره في مشهد تجريدي وهو يعدو ويلهث بلا طائل من أجل تحقيق ذاته، ومن ثم تشجيع «عايدة» و«سميحة» له على الاستمرار في الغناء، تمثل وبقدر كبير من التعبير عن أزمة الفنان المثقف المحبط، ولعلها صورة تكررت في أعمال سابقة. نجاحها في السيطرة على طاقم العمل، لم يتحقق فقط على صعيد التصوير (عبدالسلام موسى مصور مسلسلي: «موجة حارة» و«أفراح القبة» وفيلم «باشتري راجل») والموسيقى (أحمد الصاوي) التي جعلها مسالمة لدرجة أنها لا تعلق بالذهن، وإنما السيطرة تمثلت بصعيد الطاقم التمثيلي، الذي تمردت فيه على التوظيف التقليدي للممثلين، وتحررت تماماً من الصور الذهنية المعتادة لكيفية أداء الممثلين، وتجسيدهم للشخصيات الدرامية، وهو ما وضح بجلاء في أداء ممثلي الأدوار الرئيسة (سلمى سامي ومنحة البطراوي ومروان العزب)، واستخراج أفضل ما في جعبتهم، كما فعلت مع منحة البطراوي، التي جعلت منها أفضل ممثلة في مهرجان دبي السينمائي، وسلمى سامي، صاحبة الوجه المريح، والأداء الرصين، والقدرة على الإلمام بدواخل الشخصية الدرامية، وهو ما عبرت عنه حركياً ونفسياً بأفضل صورة، ويأتي الوجه الجديد مروان العزب، ليكمل الإبداع بحضوره المدهش، وتلقائيته التي لفتت الأنظار، وهو الذي بدأ مسيرته الفنية كشاعر ومغني راب، ودرس التصوير السينمائي في كلية الفنون التطبيقية، وكاتب سيناريو للفيلم القصير «المجذوب»، الذي مثل فيه أيضاً. «زهرة الصبار» تجربة أولى لمخرجته تمثل تجديداً في عناصره؛ سواء في أسلوب السرد، الذي تمرد على الشكل الكلاسيكي السائد، أو في ضبط، وتوظيف المواهب التمثيلية. غير أنه ركن إلى كلاسيكية المؤثرات والموسيقى المستخدمة، وبذلك يحقق المثل القائل: نصف عقل ونصف جنون.