إنّ أوّل ما يشدّ القارئ في كتاب سيف الرّحبي الأخير «رسائل في الشوق والفراغ» شعريّة عناوينه. فهذه «العتبات» تلفت الانتباه إليها قبل أن تلفت الانتباه الى شيء آخر خارجها. لكأنّها نصوص مستقلّة عن النّصوص / المتون. لكأنّها مكتفية بذاتها غير مفتقرة الى غيرها. فالعناوين، في هذا الكتاب لا تنهض، كما هي الحال بالنّسبة الى العناوين التقليديّة، بوظيفة الإفصاح عن النصّ، أو الكشف عن دلالاته بل إنّها تنهض بوظيفة إيحائيّة، فهي «نصوص موازية» فيها ما في المتون من اكتناز دلاليّ، واحتمالات تأويليّة شتّى. ينقسم الكتاب الى ثلاثة أقسام. يضمّ القسم الأول ثلاث رسائل هي: - حول الرّجل ينهض من نومه. - من أيّ جراح ينفجر ذلك البكاء ؟ - كلّ لحظة جديدة، كل موت قديم. أمّا القسم الثاني الموسوم ب «مشاهد آسيويّة» فيحتوي على نصّين هما: - جدل الأحذيّة والطّرقات. - وادي العيون. ويختتم الكتاب بقصيدة عنوانها: - كرسيّ في مهبّ الرّيح. فهذه العناوين لا تحيل على النّصوص/ المتون، كما أنّها لا تحدّد مضامينها أو مقاصدها. وإنّما تكتفي في الأغلب الأعمّ، بالإلماح إلى بعض ما ترسّب في أعماق تلك المتون من معان ورموز... يستهلّ سيف كتابه بثلاث رسائل عاشقة مستخدماً ضمير المخاطبة. وهذا الضمير، الذي يُعَدَََّ من مراسم فنّ الترسّل، يوهم القارئ أنّ هذه الرسائل موجّهة الى امرأة مخصوصة يحاورها الكاتب ويسائلها، وربّما يفصح لها عن غائر مشاعره، ومن ثمّ يوهم هذا الضمير أنّ هذه الرسائل «خطاب حميم» يتّجه الى متقبّل معلوم، تخاطبه «هو» دون سائر النّاس، فثمّة بين المُرسل والمرسَل إليه أسرار لا يريد الطرفان إفشاءها. إنّها «أسرارهما» ولا يحقّ لأيّ كان أن يستبيحها أو يطّلع عليها... هذا الإيهام من شأنه أن يحوّل القراءة الى ضرب من التلصّص، يريد من خلالها المتقبّل أن يهتك ما استخفى من أسرار ويعرف ما لا ينبغي أن يعرفه... والواقع أنّ كلّ هذا مجرّد وهم، فالرّسالة لا تُخفي بل تكشف، ولا تتّجه الى شخص معلوم وانّما تتّجه الى القارئ على وجه الإطلاق والحقيقة. لهذا يمكن القول إنّ «الرّسالة» شكل قبل كلّ شيء، أسلوب في الكتابة، طريقة في إنشاء القول وتصريفه. لكنّ الرسالة، في هذا الكتاب، لم تخضع لتقاليد فنّ الترسّل التقليديّة بل خرجت عليها باحثة عن أفق تعبيريّ مختلف. فسيف الرّحبي لم يضع للرّسالة حدوداً تسيّجها، ولم يبرم مع القارئ ميثاقاً واضحاً يلتزم به. الرّسالة، في هذا الكتاب، خطاب مفتوح، مع كلّ ما تنطوي عليه هذه العبارة من معاني التداعي والتدفق والاندفاع. انّها كتابة تتّسم بقدر كبير من الحريّة يجعلها قادرة على احتواء عناصر فنّية بعيدة من مجالها، مختلفة عن طبيعتها. ولا غرابة في ذلك بما أنّ أدب الرسائل، كما أوضح بعض النّقاد الغربيين، متاخم لعديد الأجناس الأدبيّة يتأثر بها، ويؤثر فيها، ولهذا تحدّث هؤلاء النّقاد عن سمات أجناسيّة تشترك فيها الرّسالة مع فنون القول الأخرى. هكذا وجدنا هذه الرسائل تسترفد من الشّعر طاقاته الإيحائيّة، ومن الرّواية إمكاناتها السّرديّة، ومن اليوميّات طابعها التسجيليّ. من أهمّ ما يلفت الانتباه في هذه الرسائل انعطافها على ظاهرة «الترسّل» بالنّظر. فالغاية، من كلّ رسالة، في نظر سيف الرّحبي، هي إلغاء المسافة، تحقيق حلم التوّحد والحلول، الظفر بنور «الحبيب المفتقد وتجسّداته التي ما زالت بعيدة وعصيّة» كلّ رسالة هي محاولة للانتصار على الغياب «ذلك الحيوان الذي يفترس التّلاقي ويقضّ مضجع العاشقين». كما أنّ كلّ رسالة تأثيث للخلاء. رغبة في التوّحد بالمعشوق الى حدّ الافتراس». لكن سرعان ما يقف الشاعر على فشل الكتابة في تحقيق هذه الغاية، فمنازلة المسافة والغياب بالكلمات ليس الاّ وهماً... «الكلمات لا تصلح حتّى للعزاء». لكن هذه الرسائل هي، في المقام الأول، خطاب بوح واعتراف، عن طريقها يكشف الشاعر عن خبيء أحاسيسه. وهنا، بالتحديد، تسقط الحدود بين الشعر والنثر، فاللّغة تصبح لغة «الحال» - على حدّ عبارة المتصوّفة - ليس لها من غاية سوى اقتناص ما يدور داخل النّفس من انفعالات في شباك اللّغة «نعم أنا مشتاق اليك، حين المساء يمدّ يده المثقلة بالأساور والدّماء. حين القتلة والسماسرة. حين الكآبة ترخي سدولها كخوف النّابغة أو ليل امرئ القيس...أغالب فيك الشوق المتراكم منذ الخليقة الأولى على هذه الأرض المترمّلة منذ كهوف القدماء حتّى ناطحات السحاب...». إنّ العشق في كتاب سيف الرحبي حالة وجوديّة، في المقام الأوّل، إنّه سعي الى الذوبان «في الضفة العليا» أو أصلها البوذيّ البعيد «النرفانا» والتي يمكن أن تنكشف عن المعشوق في كلّ تجلّياته «حيث تسكن روح الانسجام كبحيرة صافية وسط تجاذب محيطات هائجة» هذه الحال هي التي وصفتها، في نظر سيف، الغزليّة العربيّة، منذ أقدم العصور، فالغزل، عند العرب، يذهب أبعد من التغني بالمحبوب ليستشرف «البعد الوجوديّ» في تجربة اللّقاء بين الرجل والمرأة... وفي السياق نفسه تندرج إبداعات المتصوّفة من كلّ المذاهب... في القسم الثاني من الكتاب يسجّل سيف الرّحبي بعض «المشاهد الآسيويّة» إثر رحلته الى الشرق الأقصى. هذا القسم يحتفي بالسّفر بوصفه انعتاقاً من حدود «أوطان ربّت الفرد والجماعة على أناشيدها وثقافتها» وسعياً الى «كسر جمود العادة والنّمط». لكنّ المسافر هو، قبل كلّ شيء، حالم كبير «ما من حدود لأحلامه... فهو يريد أن يفترس المسافة والمتعة قبل أن يفترسه الزّمن وتقلّب الأحوال...». يتأنّى الشاعر في نصوص هذا القسم في وصف «بذخ الطبيعة» في الجزر الإندونيسية وفي البحر الصينيّ «حيث الجوّ الاستوائيّ على أشدّه، باسطاً نفوذه بسحب تغمر السّماء متدافعة على شكل فيلة وتيوس جبليّة وأفراس بحر... حتّى أشكال الديكة المائيّة والبريّة وهي تقفز على حواجز الضّواحي الخصيبة والأفلاح بفرح الرّيش الملوّن لوحة أبدعتها الآلهة على غير مثال فوضويّة من فرط رهافتها الخاطفة... غابات حيوان في السّماء وأخرى على الأرض...». على هذا النحو يسترفد نثر سيف الرحبي لغة الشعر وصوره. فسيف الرحبي بقدر ما يستفيد من طاقات النثر في شعره، يستفيد من إمكانات الشّعر في نثره... هذه الطبيعة الباذخة تحيل الشاعر على طفولته الأولى تلك الطفولة «الغائرة في قيعان بحار مرجانيّة، وأخرى مأهولة بكافة الضّواري البحريّة التي تتحوّل، عبر الفعل الخارق لأحلام الطفل، الى كائنات رحيمة يلعب معها بألفة وحميميّة...». ثمّة خيط ينتظم الرسائل والمشاهد هو خيط «التأمّلات» حيث ينعطف الشاعر على بعض الظّواهر يتدبرها... فسيف الرّحبي لا يكتفي، خلال فصول هذا الكتاب، بالانفعال بالعالم والكائنات والأشياء وإنّما يرتدّ عليها ليدركها إدراكاً عقليّاً. في هذا السياق يتأمّل الشاعر على سبيل المثال ظاهرة «الضحك» الذي يفزع اليه المرء كلّما أحسّ أنّ الفكر وصل «الى كهف استسلامه المغلق ليرتطم بكثافة اللاشيء ومطلق الفراغ». فالضحك قد ظلّ بالنسبة الى المترحّل «في ليل الفكر والوجود» حلاًّ لمعضلات لا حلّ لها... بل إنّه في نظر البعض «المبرّر الكبير للحياة» أمّا بالنسبة الى سيف فهو «السّلاح الأكثر مضاء في مواجهة رعب الصيرورة والزّمن والتاريخ... هو الوسيلة التي يلجأ إليها للتخفيف من جريان الزّمن الثقيل...». لكنّ أهمّ هذه التأمّلات وأولاها بالنظر هي تأمّلاته في حقيقة الكتابة. فسيف ما فتئ يجأر بالشكوى من اللّغة تلتاث فلا تستسلم إليه بيسر وسماحة «أريد أن أكتب شيئاً ما، أن أعبّر بالكلمات النّاقصة والمشاعر المضطربة دوماً. أعماقي ترزح تحت هذا الهاجس الذي يجعل الكلمات تتوافد عليّ في نومي وتوقظني لأكتبها، وحين يسحبني النّوم الى جزره البعيدة، لا أتذكّر في الصباح إلاّ ضباب عبارات هاربة... لا يمكن القبض على أيّ منها...». هذا الاحساس بعجز اللّغة عن حمل أعباء التجربة تردّد في الكثير من نصوص سيف الرّحبي. فهذا الشاعر قد وقف، مثل العديد من الشعراء، على طبيعة الحرف الحاجبة حيث تتحوّل الكلمات الى حُجُب تخفي التجربة بدل أن تكشفها وتواريها بدل أن تفصح عنها... هكذا وجدنا الشاعر في العديد من فصول هذا الكتاب يستبدل الحديث عن كتابة التجربة، بالحديث عن تجربة الكتابة. إنّ أهميّة هذا الكتاب لا تكمن في قيمته الفنيّة والإبداعيّة فحسب وانّما تكمن أيضاً في قيمته «التسجيليّة والتوثيقيّة»، فهو من الكتب التي تكشف لنا عن «موقف» الشاعر من عديد القضايا الأدبيّة والفنيّة، تسلّط الضوء على قراءاته ، تبوح بأسرار «مختبره» الشعريّ... لهذا يمكن أن يكون عوناً للدّارسين يستأنسون به في دراسة أعمال الشاعر، فهو يمدّهم بمفاتيح مهمّه تتيح لهم الدّخول الى عالمه السّحري بيسر وسلاسة.