مضت ساعات قليلة على مجيئنا إلى المستشفى. كان قادماً ليمد جسده الواهن بالمحاليل بعد أن رفضت معدته الطعام اليومين الماضيين. قال: « ساعتان ثلاث وأعود.» وقال إنه لم يذهب من قبل إلى مستشفى. في الطريق أقنعناه أن يقضي ولو ليلة يجري فيها بعض الفحوص والتحاليل. ملتفاً في الأغطية على سرير رفعوا ظهره قليلاً. أخذوا رسماً للقلب وأشعة للصدر، ووضعوا على أنفه وفمه قناع الأوكسجين وفي معصمه أنبوب المحلول. تهاجمه نوبات متقطعة من الألم في بطنه وصدره. يتعجب بعد كل نوبة من حدتها. له أكثر من عامين في صراع مع المرض لم يفصح عنه إلا في الشهرين الأخيرين حين عجز عن قيادة سيارته. إحدى عينيه انطفأت. الأخرى مهددة. ضمور في أوعيتها الدموية. آلام رهيبة في ساقيه وكتفيه تمنعه عن الحركة أياماً. ظنها روماتيزم. عالجها مرة ب «الكي» عند أعرابي. خلف الكي بؤرتين محترقتين بساقيه. طبيب الروماتيزم الأخير شك في ورم فأحاله إلى طبيب أورام والذي طلب تحليلاً. رفض عبد الفتاح وهاج وانصرف، كان عنيفاً في غضبه حين كنا ندفعه لإجراء التحليل: اعمل معروف واسكت. أنا موش حمل ده. ورم. ورم. لم تزعجه كل تلك الآلام بقدر خوفه على القليل الباقي من بصره. كان حريصاً على مداومة طبيب العيون ليوقف زحف العتمة، وكان يدهشني بكثرة ما يقرأ مستخدماً عدسات مكبرة مختلفة الأشكال. أصوات الأطباء والممرضات خارج الحجرة يتهيأون للسحور. أطفأت النور واكتفيت بضوء خافت في الطرقة الجانبية بالحجرة. تحدثنا في فترات الراحة من الألم. قال إن ما يخيفه هو الأزمة التي تأتي ما بين الثالثة والرابعة صباحاً وأنها جاءته بالأمس وقذفت به من فوق السرير. وتحدثنا عن روايتين أعاد قراءتهما في اليومين الماضيين: «كانكان العوام» و»الجميلات النائمات». قال إن هناك أعمالاً يحس من حين لآخر بالرغبة في إعادة قراءتها. أخذنا نعد ما قرأناه من روايات في هذا الحجم والمستوى. ثم أغمض عينيه وصمت. قال بعد فترة: نسينا واحدة. إيه هي؟ «السبعة الذين شنقوا.» فاكر أول مرة قرأناها. كان ذلك منذ سنوات طويلة. وأخذ يتذكر بتفصيل دقيق انبهاره وحماسه الشديد لها وكنا يومها نلعب الطاولة في المقهى. جاء الطبيب. نبهه إلى عدم رفع قناع الأوكسجين عن أنفه وفمه. عاد عبد الفتاح إلى الحديث بعد خروجه متحايلاً على القناع. يزحزحه قليلاً بطرف اصبعه ويتحدث من جانب فمه: ياه. لو نمت ليلة واحدة حاستريح». حين تأتيه نوبة الألم يتقلص جسده ويتكور باحثاً عن وضع مريح. يأتي الطبيب ويخرج. ينام قليلاً ويصحو. تحدث عن موت أبيه. قال إنهم وضعوا له أيضاً قناع الأوكسجين وأنبوب المحلول. وتحدث عن النباتات في شقته - يغلب عليها نبات الصبار بأشكال عجيبة. كان شغوفاً به يتحكم في تكوينه – بدا أن هناك ما يقلقه في شأنها. وتذكر قطاً ذكراً كان يربيه، جلب له الفضائح حين خرج إلى الشارع وتحرش به ذكور الحواري المشردين فطرده. قال إنه يشعر بالبرد. فتحت المكيَف الساخن. استغرق في النوم. خرجت إلى الطبيب. قال الطبيب إن أشعة الصدر تثير القلق وإنه طلب أخصائياً للصدر وآخر للأورام سيأتيان في السابعة صباحاً. عدت إلى الحجرة. صوت تنفسه ثقيل تصحبه خشخشة قوية في صدره، استيقظ. سألني عن الوقت. كنا نقترب من الثالثة. قال إنه يريد أن يقف قليلاً، ودلى ساقيه من الجانب الآخر، يشد معه أنبوبي المحلول والأوكسجين. رفعت حامل المحلول، قبل أن أصل إليه تهاوى أمام السرير. وضعت الحامل جانباً وضغطت الجرس. لحظتها كان يطوي ذراعه تحت رأسه ثم استرخى في رقدته. قلت له أن يساعدني لأحمله إلى السرير، ووضعت ذراعه على كتفي فسقطت، وكان يتنفس هادئاً. لحقت بي الممرضة وحملناه إلى الفراش، وأعادت وضع قناع الأوكسجين وأنبوب المحلول وخرجت. قال وهو يأخذ نفساً عميقاً إنه يريد أن يجلس على المقعد، ولن يقع هذه المرة. ثمة شيء طفولي في صوته. قال إنه لن يقع، سيمسك بجانب المقعد ولن يقع. أجلسته على مقعد بجوار الفراش. يجلس مهتزاً يردد بصره حوله. قال إنه سيعود للسرير شرط أن يظل جالساً. خاض معركته التي توقعها ما بين الثالثة والرابعة. معه الطبيب والممرضة. كان الألم ينهشه في قسوة. يضرب صدره بقبضتيه. خرجت من الحجرة. عدت إليها بعد خروج الطبيب. ينام في هدوء. غفوت على مقعد بجواره. انتبهت على صوته يناديني. وحين أجبته عاد إلى نومه. ناداني مرة أخرى في السادسة. اقتربت منه. أمسك بيدي. ينظر حوله كأنما يبحث عن شيء. فجأة أخذ جسده يتقلص، وانتفخت عروق رقبته. أضغط الجرس. يأتي الطبيب مندفعاً. سكنت حركته مرة واحدة. أنظر إلى الطبيب غير مصدق. ضغط صدره مرتين متتاليين. صدرت عنه شهقة. قال الطبيب: لو سمحت» خرجت. ممرضة تدخل وتخرج تكاد تجري. تحمل حقناً وأدوية. خرج الطبيب وتقدم نحوي.