تقول فلسفة التنوير الأوروبي «من لا يتعلمون من التاريخ محكوم عليهم بتكراره». وقد حاولت حركة التنوير اليهودي «الهاسكالاه» بدءاً من موسى مندل، وانطلاقاً من ألمانيا نهاية القرن الثامن عشر ثم باقي أوروبا بداية التاسع عشر، القيام بنقد جذري للمجتمع اليهودي الكلاسيكي استخلاصاً لدرس التاريخ، فدعت إلى الخلاص من طغيان الماضي اليهودي المحمل بتراث الغيتو والاندماج في النزعات الليبرالية الرحيبة. غير أن القرن لم ينته إلا والتنوير اليهودي يتجرع مرارة الهزيمة أمام الحركة الصهيونية الصاعدة كقومية عنصرية استيطانية، لم تعمد قط إلى التعلم من التاريخ، بل إلى تكراره الفج، فلم تسعَ إلى الاندماج في النزعات الليبرالية ولكن إلى التحالف مع القوى المحافظة بل الأكثر عنصرية طالما يخدم ذلك مصالحها. ففي ثلاثينات القرن العشرين تبدت الانتهازية الصهيونية واضحة في التعاون مع النازية نفسها، والتهليل للفوهرر عند صعوده إلى موقع المستشارية، حيث كان الكثير من القادة الصهاينة يشاطرونه الاعتقاد بالتفوق «العرقي»، ومعارضة «اندماج» اليهود الساميين في أبناء العرق الآري، تسهيلاً لانتقالهم إلى إسرائيل، الدولة التي كانت لديهم حلماً وشيك التحقق. ووصل الأمر بحاخام يهودي كبير برز بعد ذلك كنائب لرئيس المؤتمر اليهودي العالمي في الولاياتالمتحدة هو يواقيم برنز إلى الثناء على هزيمة الديموقراطيتين الليبراليتين الإنكليزية والفرنسية بداية الحرب، لأنها كانت تقود إلى أو تسمح باندماج اليهود في مجتمعاتهم الأصلية، ما كان ينفي مزاعم الاضطهاد الكوني ويعطل ديناميكية البحث عن وطن قومي جديد، معلناً تأييده للشمولية النازية التي ظلت متفوقة على خصومها حتى عام 1942، قائلاً: «إن دولة تقوم على مبدأ نقاء العرق والأمة لجديرة باحترام اليهودي»، وهو ما يكشف عن منطق عنصري متسق مع نفسه، إذ لا فرق بين الأسطورة الجرمانية القائمة على فرادة العنصر الآري والقائلة بألمانيا فوق الجميع، وبين الأسطورة الصهيونية القائلة بسمو العرق اليهودي، وبخصوصية إسرائيل كمحور للخلاص وعلامة على الحضور الإلهي في التاريخ. ولعل ألبرت اينشتاين أدرك مبكراً خطورة سير الصهيونية في ضدية الروح الحق للديانة اليهودية، وهو ما دفعه إلى رفض فكرة دولة يهودية لها حدود وجيش ومشروع للسلطة الدنيوية سيحيد في تصوره عن «روحانية طائفتنا التي ندين بها لأنبيائنا»، قبل أن يغير موقفه عشية صدور قرار التقسيم تحت ضغط الحركة الصهيونية. أما المفكر اليهودي مارتن بوبر فكان أول من اعترف صراحة بإخفاق التنوير اليهودي أمام الحركة الصهيونية، التي وقعت في أسر القراءة العنصرية للتاريخ، قائلاً: «لقد برهن هتلر على أن مسار التاريخ لا يوازي مسار العقل ولكن مسار القوة، وأنه عندما يكون هناك شعب على قدر من القوة فإنه يستطيع أن يقتل من دون عقاب وهذه هي الحالة التي كان علينا أن نحاربها، لقد كنا نأمل في أن ننقذ القومية اليهودية من خطأ تحويل شعب إلى صنم معبود لكننا أخفقنا!». أما جوهر الإخفاق هنا فهو شعور اليهود بعذاباتهم في السياق الأوروبي، وبالصدمة في الإنسانية الأوروبية التي جعلت منهم «استثنائية سالبة» عندما عزلتهم واضطهدتهم طيلة تاريخها، وحاولت إبادتهم على يد النازي. هذا الشعور كان يفرض عليهم رفض تكرار مثل هذه العذابات لغيرهم ناهيك عن أن يكون بأيديهم هم، لأن من يعاني الظلم يجب أن يكرهه ولو وقع على الآخرين، ومن يريد الهروب من الاستثنائية السلبية لا يجب أن يدفع الغير إليها، ولا أن يسعى إلى احتلال موقع الإيجاب على أنقاضه ودمائه، بل عبر تسوية مع التاريخ تحقق الذات من دون نفي الآخر، تسعى إلى التعادل بديلاً عن السلب والإيجاب معاً، لئلا يكون هناك مظلومون آخرون مستعدون دوماً للثأر منه، ولا يبقى التاريخ أسيراً للظلم والعبث. ارتكبت إسرائيل جريمتها الاستيطانية على حساب الفلسطينيين بتبرير من «الظلم الاستثنائي» الذي وقع على اليهود، سواء في الذاكرة الأوروبية البعيدة أو في واقعة المحرقة التي جعلت منهم «الضحية الأبرز» في القرن العشرين، فأنتجت واقعاً معاصراً أبرز معالمه «الاستثنائية الفلسطينية» التي احتل معها الفلسطينيون موقع «الضحية الأحدث»، فيما صار اليهود في موقع الجلاد الأبرز. وهذا الإطار من «تصارع الاستثنائية»، هو بالضبط السياق الذي حكم ولا يزال يحكم الصراع العربي – الإسرائيلي في العقود الستة المنقضية. وفيما كان التنوير اليهودي الكلاسيكي أخفق بالأمس في التعلم من التاريخ خضوعاً لضغط الصهيونية التقليدية، فإن تيار «ما بعد الصهيونية» الممثل ثقافياً بحركة «المؤرخين الجدد»، والذي يمكن اعتباره امتداداً، ولو نحيفاً جداً لهذا التنوير، يعاني اليوم الإخفاق ذاته أمام ضغوط «الصهيونية الجديدة» كتيار أكثر يمينية وتوسعية من الصهيونية التقليدية، أخذ يصبغ بصبغته الدولة الإسرائيلية الراهنة. وفي مقابل سعي ما بعد الصهيونية إلى نقد للرواية الصهيونية عن حرب 1948 معترفاً ببعض مقولات الرؤية الفلسطينية وتفسيراتها النقيض للرواية الصهيونية عن النكبة/ حرب الاستقلال وما قبلها أو بعدها مباشرة على منوال بني موريس الذي اعترف في كتابه «مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين: 1947 - 1949»، بأن الخروج الفلسطيني قد تم التعجيل به من خلال أعمال التفجير بواسطة جماعات الهاغاناه وأرغون، وعصابة شترن، وجيش الدفاع الإسرائيلي. كما اعترف في مقال تال بعنوان «إعادة تقويم الخروج الفلسطيني 1948» بأن فكرة التهجير لم تكن صدفة عشوائية بفعل الحرب بل كانت من الأمور التي فكر بها الزعماء الصهاينة مبكراً، على منوال هرتزل في كتابه عن «الدولة اليهودية» منذ عام 1895. في مقابل ذلك سعت «الصهيونية الجديدة» إلى رعاية تأريخ تقليدي لإسرائيل يعتمد تلك المقولات المؤسسة للدولة، وخصوصاً في عهد السيدة ليمور ليفانت التي تولت وزارة التعليم في حكومة نتانياهو الأولى 1996 وقررت كتاباً مدرسياً ثلاثي الأجزاء بعنوان «اليوبيل الذهبي لإسرائيل» لا يذكر الفلسطينيين قط لا قبل 1948 ولا بعدها، اللهم باعتبارهم إرهابيين معاصرين. وفيما يبدو تيار ما بعد الصهيونية راغباً في تجاوز الصهيونية التقليدية إلى أفق حل أكثر عدلاً وإنسانية على منوال آفي شلايم، من دعاة الدولة الواحدة العلمانية والديموقراطية لكل مواطنيها من اليهود والعرب، أو إيلان بابيه مؤلف كتاب «نشوء الصراع العربي – الإسرائيلي: 1947 – 1951» الذي يطالب فيه بالعودة إلى خطوط قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947 لإقرار وجود دولتين حقيقيتين على أساس العدل لا القوة التي صاغت القرار 242 لعام 1967. يرفض تيار الصهيونية الجديدة حل الدولتين حقيقة، وينزع إلى فرض أمر واقع مشوش وغامض على الفلسطينيين بقوة السلاح حيناً، وبالمراوغة السياسية والتفاوض في حلقة مفرغة أحياناً أخرى. وإذا كانت الصهيوينة التقليدية أخفقت في التعلم من التاريخ بالأمس، فإن الصهيوينة الجديدة تتجاوز اليوم إلى حد إنكار التاريخ تماماً بفعل وحشيتها التي تكرس عذابات الفلسطينيين، وتعمق مراراتهم على نحو أشد مما يمكن لأي ذاكرة تاريخية أن تتحمل وتستمر معه في الحفاظ على توازنها أو رغبتها في العيش المشترك. كما تتكرس حقيقة إسرائيل، أو تتعرى كمولود تاريخي لقيط وأناني بل سادي، تدفعه أنانيته إلى القمع، وتزيد ساديته من توقه النهم إلى مشاهدة روايته التاريخية معادة ومصورة للغير أمام عينيه في دراما إنسانية أكثر مأسوية، يزيد من تعقيدها ويعيد إنتاجها باستمرار هاجس الأمن وعقدة الخوف الذاتي التي غالباً ما تصاحب كل كائن لقيط لا يجد لنفسه صكوك نسب إلى الزمن، حيث تصبح القوة، مع المبالغة في إظهارها، هي الوثيقة الرئيسة، وصك النسب الوحيد إلى صيرورة الزمن. * كاتب مصري.