خلافاً لما قد يبدو ظاهراً، أبدت واشنطن تجاوباً، وإن بدرجات متفاوتة، حيال الانتفاضات الشعبية التي شهدتها إيران منذ منتصف القرن الماضي. فباستثناء إجهاضها لحركة مصدّق، انحازت واشنطن بوازع من رغبتها في حماية مصالحها الاستراتيجية في المنطقة إلى دعم غالبية مظاهر الحراك الثوري الذي يلقى بظلاله على إيران منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا. ففي عام 1953، وتوخياً منها للهيمنة على النفط الإيراني، خطّطت واشنطن لإطاحة حكومة محمد مصدق عقب تقلده رئاسة الوزراء عام 1951 ثم إقدامه على تأميم النفط، بعدما ساندته في بداية الأمر ومنحته قرضاً بقيمة 25 مليون دولار. فوفق وثائق استخباراتية أميركية، وبينما كانت تتطلع للحيلولة دون انتشار عدوى قرار تأميم النفط الإيراني إلى باقي دول العالم الثالث النفطية، قامت واشنطن بفرض مقاطعة فورية على النفط الإيراني من قبل الشركات النفطية الكبرى، الأمر الذي اضطر مصدق إلى التقارب مع موسكو، على نحو استفز واشنطن لدرجة دفعتها للتنسيق مع بريطانيا لتنحيته من خلال العملية الاستخباراتية «أجاكس»، التي دبّرها رجل الاستخبارات الأميركي كيرميت روزفلت. ونالت واشنطن مرادها بعد عزل مصدق عام 1953، إذ حصلت الشركات الأميركية على 40 في المئة من النفط الإيراني، كما استبدل الشاه الخبراء الأميركيين بنظرائهم الألمان في قطاعات حيوية إيرانية كالدفاع والداخلية والصحة والاقتصاد. وعام 1979، ساندت واشنطن الثورة ضد حليفها الشاه سراً وعلانية، إذ أكدت الوثائق ذاتها أنَّ الخميني، بادر بالتواصل خفية مع الولاياتالمتحدة منذ عام 1963، طلباً للدعم والتعاون، عقب استيائه من إصلاحات اقتصادية واجتماعية قام بها الشاه، عرفت ب «الثورة البيضاء»، وزّع خلالها أراضي الإقطاعيين على المزارعين، كما منح المرأة حق التصويت، في خطوة اعتبرها الخميني «خطراً على الإسلام». وفي مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) 1963، أي بعد أشهر من إنهاء سجنه بجريرة التشكيك في إيمان الشاه واتهامه بالعمالة لإسرائيل، تبادل الخميني رسائل سرية مع الرئيس الأميركي السابق جون كيندي (قبل مقتله بقليل). وبينما كشفت عن تدشين الخميني منذ منتصف كانون الثاني (يناير) 1979 ولمدة أسبوعين مفاوضات مباشرة مع الإدارة الأميركية بغية التحضير لانتقاله من باريس إلى طهران وتأسيس نظام الولي الفقيه، أماطت الوثائق اللثام عن الدور المحوري الذي اضطلع به الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر، في دعم الخميني وإيصاله إلى سدة الحكم من خلال ممارسة الضغوط على الشاه المترنح وإجباره على تسليم السلطة لرئيس وزرائه ومغادرة إيران، بعدما نجح السفير الأميركي لدى طهران في إقناع الإدارة بأن الحل الأمثل للأزمة الإيرانية وحفظ المصالح الأميركية يكمن في المجيء بالولي الفقيه وإرساء دعائم التحالف ما بين قادة الجيش والخميني، مقابل تعهد الأخير بتوثيق العلاقات مع واشنطن وحماية مصالحها النفطية لدى إيران، ومواصلة بيع النفط الإيراني إلى الدول الغربية وإسرائيل، فضلاً عن عدم تصدير الثورة إلى دول الجوار. كذلك، عكف الرئيس كارتر على إقناع المجتمع الدولي بتقبل نظام الخميني، من خلال الترويج أنه سيجعل إيران بلداً راقياً، أكثر استقراراً، صديقاً للغرب وإسرائيل، ولا يتوقف عن تزويدهم بالنفط. كعادتها دوماً، وفي مسعى منها لكبح جماح تطلعات الملالي، حرصت واشنطن على الاحتفاظ بمسارين متوازيين في العلاقة مع طهران، أحدهما مع الولي الفقيه، والآخر مع الجيش والاستخبارات، ومن ثم عكفت السفارة الأميركية في طهران على توثيق التفاهمات بين مساعدي الخميني مهدي بازركان ومحمد بهشتي من جهة، وقادة الاستخبارات الإيرانية «السافاك» وجنرالات الجيش، الذي بذل كارتر جهوداً ملموسة من أجل الحفاظ على وحدته وبقاء قياداته بعد مغادرة الشاه، من جهة أخرى، لوضع اللمسات الأخيرة على سيناريو إطلاق نظام الولي الفقيه وإسقاط النظام البهلوي. وبينما لم يتورع الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن عن إعلان تأييده للتظاهرات التي فجّرها طلاب جامعة طهران عام 2003 ثم انضمت إليها حشود جماهيرية في مدن عدة، للتنديد بالإصلاحات السياسية الوهمية والمخادعة التي ادعى الرئيس السابق محمد خاتمي تبنيها، سن الكونغرس عام 2006، قانوناً يقدم بموجبه عشرة ملايين دولار إلى مجموعات معارضة لنظام الملالي. وجاءت انتفاضة عام 2009 بينما كانت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما تسعى إلى تحسين العلاقات مع نظام طهران ضمن سياق تقارب أوسع مع العالم الإسلامي وتوسلاً لإنجاح المفاوضات النووية معه أملاً في إدراك اتفاق نووي يكبح جماح البرنامج النووي من دون اللجوء إلى خيارات تصعيدية معقدة وغير مضمونة. غير أن صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية أوردت في كانون الثاني (يناير) 2010 أن إدارة أوباما، التي تملّكتها مخاوف من توظيف نظام الولي الفقيه للتظاهرات من أجل تعزيز فرصه في البقاء، سرعان ما راجعت موقفها وأعادت تقييم المشهد، بعدما أظهرت الاحتجاجات مدى قدرة المتظاهرين على الصمود في مواجهة بطش النظام الإيراني، كما كشفت تواضع قدرة ذلك النظام المنغلق والمتيبس، على البقاء لمدى زمني أطول، الأمر الذي يشي بإمكان نجاح الموجات الثورية المتلاحقة في إسقاط ذلك النظام ولو بعد حين. ومن ثم، عمدت الإدارة إلى العمل في الخفاء لمساندة «الحركة الخضراء» ودعم المعارضة الإيرانية في الخارج. وأتى دعم إدارة الرئيس ترامب للاحتجاجات الأخيرة المطالبة بالتغيير مباشراً وسريعاً ومتناغماً مع توجهه الجديد حيال طهران، والذي أعلنه منذ توليه السلطة قبل عام مضى، كما تضمّنته استراتيجية الأمن القومي الجديدة التي كشف عنها وزير الخارجية ريكس تيلرسون الشهر الماضي، والرامية إلى دعم القوى المطالبة بالديموقراطية وتغيير النظام في طهران، على نحو ما عبر عنه الرئيس دونالد ترامب، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 19 أيلول (سبتمبر) الماضي، وأكد خلاله دعمه لفكرة تخليص الإيرانيين من نظام ولاية الفقيه. وفي السياق ذاته، أعلن تيلرسون خلال كلمة له أمام الكونغرس في منتصف حزيران (يونيو) الماضي، أن سياسة بلاده تجاه إيران ترتكز على دعم المعارضة الداخلية توخياً لإحداث تغيير سلمي للنظام. كذلك، رأى مسؤولون أميركيون أن تعيين وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA أبرز مسؤوليها وهو مايكل دي أندريا، الملقب ب «آية الله مايك» كمسؤول عن الملف الإيراني، يعني أن الرئيس ترامب بات يميل نحو سياسة «تغيير النظام» في إيران. واستندت إدارة ترامب فى دعمها الحراك الإيرانى والسعي إلى تدويله إلى أن تقاعس إدارة أوباما عن مؤازرة «الحركة الخضراء» مبكراً عام 2009 حرمها من الحاضنة الدولية ما أتاح للولى الفقيه قمعها بوحشية. بينما أسهم الدعم الأميركي الراهن فى لجم الممارسات القمعية للسلطات الإيرانية، فيما ارتكزت مقاربة واشنطن لتدويل تلك الاحتجاجات عبر الدعوة لمناقشتها فى مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان، إلى أن بطش النظام بالمشاركين فيها قد يؤدي إلى تفاقم التأزم الداخلي فى إيران على نحو يهدد الاستقرار العالمي. * كاتب مصري