كان الفيلم التونسي «صمت القصور» أول فيلم روائي طويل تحققه السينمائية مفيدة التلاتلي التي كانت معروفة في عالم السينما العربية باشتغالها المميز على توليف عدد مهم من الأفلام الطليعية. ومع هذا لم يكن كثر يتوقعون أن يكون أول فيلم تخرجه على مثل تلك القوة ومن هنا حين عرض تباعاً في «كان» ثم «قرطاج» ثم مهرجان السينما العربية في باريس أحدث صدمة إيجابية مدهشة. وهو لا يزال يعتبر حتى اليوم واحداً من الأفلام العربية التأسيسية. فعمّ يتحدث هذا الفيلم؟ عن حكاية مغنية في المقام الأول ولكن من خلالها عن حكاية وطن واستقلال. هل هي حكاية المغنية المعروفة عليا التونسية كما قال البعض؟ أم هي حكاية الفنانة حبيبة مسيكة، كما قال البعض الآخر؟ أم هي حكاية مفيدة التلاتلي نفسها، كما افترض عدد من الصحافيين؟ لا هذا ولا ذاك قالت مفيدة التلاتلي، ربما كانت هناك عناصر من حياة عليا أو حبيبة أو حتى عناصر من حياة صاحبة الفيلم نفسها. لكن هذا كله نابع فقط من ذلك التطابق القائم في القهر الذي تتعرض له المرأة التونسية خصوصاً والمرأة العربية عموماً. وهو قهر يلوح في ثنايا فيلم «صمت القصور»، بل يشكّل موضوعه الرئيسي، حتى بصرف النظر عن أحداث الفيلم، التي سيبدو للوهلة الأولى أنها تحمل خصوصياتها التي تحول بينها وبين أية إمكانية للتعميم. أجل للوهلة الأولى تبدو الحالة خاصة، خصوصية الديكور والفترة الزمنية، ولكن أيضاً خصوصية العلاقات التي يرسمها الفيلم، والبيئة التي توضع فيها شخصياته. فنحن هنا في قصر كبير شديد الفخامة، يعيش فيه سادة تونسيون كبار عشية الاستقلال. والكاميرا في هذا القصر تتجول كالمكوك بين النقيضين اللذين يجمعهما القصر: السادة الذين تجري حياتهم على منوالها الطبيعي، حفلات، سهر، علاقات غامضة، علاقات مرضية، تطّلع مبهم نحو الاستقلال وسط التعاون التام مع المحتل، والأبوية الهائلة التي يعامل بها السيد الكبير (سي علي) كل أهل الدار، بمن فيهم الخدم. والخدم هؤلاء هم المحور الثاني للحياة في القصر، يقومون بأعمالهم كما يتعين عليهم أن يفعلوا، وفيما يجتمعون الى بعضهم البعض يسمحون لأنفسهم بقدر من الحرية اللفظية التي تتيح لهم أن يرووا لنا بعض خفايا القصر، ويعبروا عن مسرات حياتهم ومنغصاتها. ضمن إطار العرف القائم، تسير الحياة في هذا القصر على المنوال الذي ينبغي أن تسير عليه، وكان يمكن لها أن تسير الى الأبد لولا أن ذلك الزمن المفصل شهد تضافر حدثين لا علاقة لهما ببعضهما البعض: فمن ناحية كانت تونس تعيش زمناً انعطافياً هو زمن الانتفاض ضد المحتل الفرنسي بقيادة الحزب الدستوري. ومن ناحية ثانية، كانت أروقة القصر تشهد ولادتين: في الطوابق العليا ولادة سارة ابنة الباي سيدي علي، وفي الطوابق السفلى ولادة عليا، ابنة الخادمة خديجة. ولئن كنا عارفين أن سارة هي ابنة رب القصر، فإننا سنجهل من هو والد عليا، لأن عليا، طفلة الخادمة خديجة تأتي، كما ينبغي للوضع أن يكون في تلك الأمكنة، من اللامكان، من العلاقة الجنسية التي تسمح لسادة القصر المذكور بإقامتها مع الخادمات، علاقة تظل مستورة بالتكتم، محاطة بالغموض لا يجرؤ أحد - ولا حتى صاحبة العلاقة نفسها - على البوح بها. كل ما في الأمر أننا نفترض أن عليا يمكن أن تكون ابنة السيد علي، وثمة لمسات حنان أبوية من هذا الأخير وبوح صامت في عيني خديجة يقترحان علينا مثل هذا المنطق. على خلفية هذه العلاقات ترسم مفيدة التلاتلي حكاية فيلمها، وتسير قدماً في كشفها للشخصيات وللعلاقات بينها، وتدع لنا بين الحين والآخر حرية أن نعثر - إذا شئنا - على ترميز يضع كل شخصية وحادثة في إطار تاريخي ومنطقي يكاد يقول لنا أن المخرجة إنما تحاول هنا أن تقول لنا تاريخ تونس نفسها. غير أن الوقوع في فخ الترميز هذا، من شأنه لو أوصل الى منطقه، أن يفقد الفيلم بعضاً من سحره، لكي يظل هذا السحر قائماً يجب على عليا أن تظل عليا، ويجب على حياتها أن تسير تحديداً على الطريق الذي رسمته لها المخرجة. وحياة عليا هي الحياة الوحيدة في القصر التي تخرج عن إطار العلاقات النمطية القائمة منذ أبد الآبدين. لماذا اختارتها مفيدة التلاتلي هي بالذات؟ أمر قد لا يهم التوقف عنده كثيراً، ولكن لا بأس من الإشارة الى المنعطف التاريخي الذي تطابق مع ولادة عليا وكان هو الدافع الأساسي، لأن فتاة مثلها تولد في منعطف تلك الظروف سوف تكون هي أداة خرق اللعبة، وعلى يديها سوف ينكسر صمت القصور، وليس من قبيل المصادفة هنا أن تصبح عليا مغنية وأن يحررها الفن من مصير أمها. ونعود هنا قليلاً الى الوراء: خلال بحثها المضني والصامت عن أبيها، وبسبب وضعيتها الخاصة تتمكن عليا من التنقل بحرية بين طوابق القصر جميعاً، وتحظى بلفتات حائرة من السيد الكبير، وتعامل من قبل سارة وكأنها أخت لها. وكل هذا يعدنا بمصير لعليا يختلف عن مصير أمها، فالأم خادمة ابنة خدم جاءت الى القصر وهي في الثانية عشرة ولا ترى أن لها أي مكان آخر خارج القصر، رحلتها الوحيدة سوف تكون تلك التي تقودها من صمت القصور الى صمت القبور. غير أنها بصمتها، بكلام عينيها، بخضوعها، ستساهم في زرع بذرة التوق الى الحرية في نفس ابنتها، تلك البذرة التي سينميها حب الفن، واكتشاف عليا باكراً لوضعيتها المميزة. صحيح أن شقيق السيد الكبير، سوف يحاول «ممارسة حقه» الطبيعي في الاعتداء عليها حين سيكتشف أنها أضحت مراهقة ناضجة، غير أن خديجة ستقف لتقول لا، للمرة الأولى. صحيح أن ال «لا» التي تقولها لا تحمل سوى الرفض أي أنها لا توفر لابنتها أي حل منطقي. لكن عليا ستلتقط الكرة، وتتفتح في الوقت نفسه على الحب عبر تعرفها الى الشاب لطفي، ابن مدرس الموسيقى المختبئ في غرفة مديرة الخدم لأنه مطارد من قبل قوات الاحتلال. هذه العناصر كلها سوف تشتغل في حياة عليا منذ تلك اللحظة. وهي التي ستدفع بها الى مصيرها الجديد: مصيرها المتحرر من القصر بعد زوال الاحتلال، فهل اوصلها هذا المصير الجديد الى الانعتاق الكلي الذي كانت تتطلع إليه. وهل هي الآن، خارج القصر، سعيدة كما كانت تريد أن تكون؟ قوة فيلم مفيدة التلاتلي تكمن عند تلك النقطة المفصلية بين المصيرين: عند ذلك التوازي بين حياة خديجة وحياة عليا. فهذه الأخيرة إذ تنال حريتها بعد «فضيحة» تسببها في القصر حين يُطلب منها أن تغني في فرح سارة، فإذا بها توقف الأغنية الغرامية فجأة لتبدأ بإنشاد إغنية وطنية تونسية تنادي بسيادة الشعب واستقلال البلد - إذن، إذ تنال عليا حريتها، وتهرب من القصر مع لطفي ستصبح مغنية شهيرة، وستصبح رفيقة حياة لطفي، لكنه لن يتزوجها، وهو كذلك سيطالبها بألا تحتفظ بالطفل الذي تحمله في أحشائها، منه. وهذا الأمر يرمي عليا في وهدة مصيرها الجديد. وهو يدفع المتفرج لأن يقول مندهشاً: لكن السيد علي سمح لخديجة بأن تحتفظ بجنينها على الأقل. هنا يقع المتفرج في إغراء الترميز من جديد. ومن جديد تأتي قوة التعبير لدى مفيدة التلاتلي لتبعد عن فيلمها «هذا الخطر»، وتعيدنا الى خصوصية الحالة. وهي خصوصية يركز عليها - على أي حال - أسلوب التراجع الزمني الذي اختارته المخرجة لفيلمها، فنحن نلتقط عليا في أول الفيلم وهي مغنية كبيرة معروفة، تعيش وضعاً متأزماً في علاقتها مع فنها كما في علاقتها مع شريك حياتها لطفي، وحين يبلغ هذا التأزم ذروته يخبر لطفي عليا بأن ثمة شخصاً أخبره بأن السيد علي قد مات. هنا تتوجه عليا الى قصر السيد علي لتقديم واجب العزاء، وفيما هي تجول في القصر تستعيد ذكريات طفولتها، مرة عبر ما تحكيه لها «خالتي حدة» التي باتت الآن ضريرة لكنها تعتبر خزان الذاكرة الرئيسي لهذا المكان المغلق، ومرة عبر ما تتذكره هي نفسها. وسياق الفيلم يسير في شكل متوازن بين الماضي والحاضر. لقد تبدلت أمور كثيرة: انتصر الوطنيون، ألغيت مكانة السادة، لم يعد الصمت سيد اللعبة في القصر. ولكن هل اختفى الخدم كخدم والسادة كسادة؟ بل ألم يتحول لطفي نفسه الى سيد جديد يملي قواعد اللعبة من جديد، وعلى هواه هذه المرة؟ أمور كثيرة تقولها لنا مفيدة التلاتلي في هذا الفيلم. تقولها أحياناً بوضوح وأحياناً بغموض، أحياناً بتطويل غير منطقي يصل الى حد إثارة الملل (في اعتقادنا أن الفيلم بحاجة لأن تختصر منه عشر دقائق على الأقل)، وأحياناً بتركيز خلاق لا يفتقر الى المرح أو الى خفة الظل. تقولها أحياناً بحيث يبدو أن فيلمها صرخة من أجل المرأة، صرخة تدين كل الرجال من دون تفريق، ويبدو في أحيان أخرى أنه سؤال كبير حول جدوى ما حققناه بفضل نضالنا التحرري. [email protected]