منذ كان كل رصيدها السينمائي فيلماً روائياً واحداً، أرغمت أحد أكبر مهرجانات السينما في العالم، مهرجان «كان» السينمائي الدولي، على الاحتفاء بها وتكريمها. إنها المخرجة التونسية مفيدة تلاتلي التي شقت طريقها بثبات، فكرست وقتاً طويلاً من حياتها للمونتاج السينمائي قبل أن تتحول إلى الإخراج في «حادث عرضي» على حد وصفها. قدمت تلاتلي أفلاماً قليلة جداً، ثلاثة ولا تزال تستكمل فيلمها الرابع «الأيادي الصغيرة»، لكنها نجحت في أن تُؤصِّل لنفسها مكانة جليَّة كرائدة في السينما التونسية والعربية. وُلدت مفيدة تلاتلي لأسرة متواضعة في سيدي بو سعيد في تونس عام 1947. ومن دون إرادتها وجدت نفسها تنتمي الى عالم المرأة المسلوبة الإرادة والمرتبكة، التي وُلدت ونشأت في ظل مجتمع ذكوري. كانت تشعر أنها في معترك قضية كبرى غير مُعلنة، وأن كل شيء ضدها، مع ذلك نجحت في الحصول على منحة لدراسة السينما في معهد «الإيديك» في باريس، وتخرّجت عام 1968. عملت مشرفة سيناريو، ومنتجة في التلفزيون الفرنسي بدءاً من عام 1972. تعترف بأنها لم ترفض أبداً أي عمل يُعرض عليها حتى في الأفلام القصيرة. أخرجت فيلمها الروائي الطويل الأوّل «صمت القصور» عام 1994، ثم فيلمها الروائي الثاني «موسم الرجال» عام 1999، والفيلمان شاركت فرنسا في إنتاجهما. عملت وقتاً طويلاً من حياتها في المونتاج السينمائي. من دون وعي منها كانت أثناء «التوليف أو التركيب» تتعلم مهنة الإخراج عبر أخطاء ومهارات من اشتغلت معهم من مخرجين مثل مرزاق علواش في شريطه السينمائي «عمر قتلته رجولته»، وفاروق بلوفة في «نهلة»، و «الذاكرة الخصبة» لميشيل خليفي، و «الهائمون» لناصر خمير، و «حلفاوين» لفريد بوغدير، و «ظل الأرض» للطيب الوحيشي. امرأة صامتة كانت تلاتلي قد طلبت من والدتها رعاية ابنها حتى تتفرغ لعملها وتفي بالتزاماتها المهنية. لكن فجأة تمرض والدتها بالزهايمر فتضطر مفيدة إلى مرافقتها. بعد ما يزيد على عشرين سنة غنية بالعمل المتواصل وبالتجارب الممتعة تترك تلاتلي عملها السينمائي لمدة سبع سنوات كاملة من أجل رعاية أمها وأولادها. في تلك الفترة تبدأ شكوك الصبا وهواجسه في مُحاصرتها، ومن جديد تُطوِّقها تساؤلات حول عائلتها وحياة أمها بخاصة حين كانت تجلس الى جانبها لفترات طويلة قرب البحر. في أحد الأيام تُمسك بالورقة والقلم لتضع حداً لهذا الأرق أملاً في تحقيق خلاصها! عندما بدأت الابنة تتأمل حياة وشخصية والدتها انتبهت إلى أن الأم كانت امرأة صامتة، لا تجرؤ على قول «لا»، لذلك كان المرض هو طريقتها الخاصة لقول هذه ال «لا»، ولإنهاء حالة الاستعباد التي عاشتها طوال حياتها. تعترف مفيدة بأن الإخراج كان متنفساً رهيباً يُطهرها من مِحن وآلام عاشتها منذ الصغر، كان تنفيساً عن وضعية لم توجد داخل البيت الأسري فحسب، بل كان لها امتداد في المجتمع الذي تعيش فيه. سمح لها الإخراج بالتعبير عن آلام والدتها وشقائها وعن أمور كان مسكوتاً عنها. فحياة والدتها كانت نموذجاً لحياة غالبية النساء في شمال أفريقيا. وعندما تصف تلاتلي الإخراج بأنه «حادث عرضي» تنسب فضله إلى والدتها، فقد كانت الأم ترمز إلى جزء كبير من حياة ابنتها التي أرادت أن تتناساه فتحوّل إلى معادل موضوعي في أفلامها. صورة من وحي هذه التجربة المؤلمة وتجارب أخرى عاشتها تلاتلي تفجرت قدرتها على سكب كل هذا الوجع في أول أفلامها «صمت القصور» الذي لفت إليها الأنظار بقوة مُدهشة، إذ نال جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان «كان»، ثم سرعان ما احتفى به النقاد ورجال السينما في العالم ليحصد أكثر من عشرين جائزة، وليُصبح أحد أهم الأفلام التي تُعالج وضعية المرأة في تاريخ السينما العربية والتونسية على وجه الخصوص. اليوم عندما يُذكر اسم مفيدة تلاتلي تتفجر في الذهن صورة يملأها التحدي ولا تنقصها الشجاعة أو الإرادة، صورة مترعة بالخطوط والظلال لامرأة صنعت خلاصها المستحيل، لإحدى المخرجات العربيات النادرات اللائي كافحن ضد الأفكار المسبقة وضد خوفهن الشخصي. امرأة فرضت نفسها وشخصيتها كمبدعة بأسلوبها الخاص. نموذج ناتئ للمرأة التي تحوّل معاناتها وتجربتها الشخصية المعجونة بالحزن والمأسوية إلى حالة إبداع سينمائي شديدة الخصوصية وبجماليات فنية نادرة. في أفلامها، «صمت القصور»، و«موسم الرجال»، و «نادية وسارة» 2003، تعالج مفيدة تلاتلي مشاكل المرأة التونسية ووضعيتها الراهنة حتى في ظل منظومة من قوانين تحرير المرأة. تُبرز معاناتها، ومعركتها النفسية والاجتماعية دون السقوط في فخ المباشرة. بعيداً من الرؤية النسوية المتعصبة تلتقط كل التناقضات التي تمنع تطور شخصياتها النسائية وتصنع جحيمها. تُسلط الضوء بفنية راقية على العلاقات المتوترة بين النساء والرجال، على القوة الرجعية المتأصّلة في عقلية المرأة التونسية. تفضح عوامل القمع والقهر الداخلي والخارجي التي تُكبّلها. تكشف كيف تخلق النساء أغلالهن بأنفسهن، مُوضحة أن الرجل لم يعد وحده المسؤول عن هذه الوضعية، فالنساء لم يعدن ضحايا له، إذ إنهن شريكات في تلك الجريمة. إنهن سجينات عقولهن وقيمهن، فالمرأة ذاتها تُكرّس لهذا القمع وتُعيد إنتاجه عندما تربي أولادها الذكور والبنات على القيم والتقاليد البالية نفسها، مما يُضاعف من عجز الفتيات عن التحرر الداخلي. في عام 2008 عندما كانت في الواحدة والستين من عمرها نالت مفيدة تلاتلي تكريم سيد المهرجانات، مهرجان «كان» السينمائي الدولي. واختارتها إدارة المهرجان للمشاركة في ندوة تحت عنوان «السينما والالتزام» ضمن تظاهرة «أسبوع النقاد»، كما رشحتها للإشراف على طاولة مستديرة تحت عنوان «حول سينما المرأة العربية»، وذلك بعدما كانت عضواً في لجنة التحكيم في المهرجان ذاته عام 2001. وهذا العام اختارتها الجمعية المصرية لنقاد السينما المسؤولة عن تنظيم مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط لرئاسة لجنة التحكيم الدولية في دورته السادسة والعشرين. هذا إلى جانب تكريمها وعرض فيلميها «صمت القصور» و «موسم الرجال» ضمن برنامج «بانوراما سينما المرأة وقضاياها» الذي أقيم على هامش المهرجان.