من رئيس المجلس الانتقالي في «الربيع» الليبي إلى رئيس حزب النهضة الإسلامي في «الربيع التونسي» مروراً بجوائز عالمية أعطيت لبعض نساء الربيعات العربية الأخرى، ها هي قضية المرأة العربية تُطرح من جديد. ولما كانت البداية في تونس، وفي تونس نفسها بدأت المرأة تقلق من خريف يهددها به هذا الربيع، كان من المفيد أن نلقي هنا نظرة على واحد من أجمل الأفلام التونسية وهو «صمت القصور» لمفيدة التلاتلي والذي اعتبر يوم عرضه قبل نحو من عقدين واحداً من أكثر الأفلام العربية دفاعاً عن المرأة ومكانتها في مجتمعات تريد أن تعيدها إلى «عصر الحريم». حين عرض الفيلم للمرة الأولى توالت الأسئلة: هل هي حكاية المغنية المعروفة عُليّا التونسية كما قال البعض؟ أم هي حكاية الفنانة حبيبة مسيكة، كما قال البعض الآخر؟ أم هي حكاية مفيدة التلاتلي نفسها، كما افترض عدد من الصحافيين؟ لا هذا ولا ذاك تقول مفيدة التلاتلي، ربما كانت هناك عناصر من حياة عُليا أو حبيبة أو حتى عناصر من حياة صاحبة الفيلم نفسها. لكن هذا كله نابع فقط من ذلك التطابق القائم في القهر الذي تتعرض له المرأة التونسية خصوصاً والمرأة العربية عموماً. وهو قهر يلوح في ثنايا فيلم «صمت القصور»، بل يشكل موضوعه الرئيسي، حتى بصرف النظر عن أحداث الفيلم، التي سيبدو للوهلة الأولى أنها تحمل خصوصياتها التي تحول بينها وبين أية إمكانية للتعميم. أجل للوهلة الأولى تبدو الحالة خاصة، خصوصية الديكور والفترة الزمنية، ولكن أيضاً خصوصية العلاقات التي يرسمها الفيلم، والبيئة التي توضع فيها شخصياته. فنحن هنا في قصر كبير شديد الفخامة، يعيش فيه سادة تونسيون كبار عشية حصول تونس على استقلالها. والكاميرا في هذا القصر تتجول كالمكوك بين النقيضين اللذين يجمعهما القصر: السادة الذين تجري حياتهم على منوالها الطبيعي، حفلات، سهر، علاقات غامضة، علاقات مرضية، تطلع مبهم نحو الاستقلال وسط التعاون التام مع المحتلّ الفرنسي، والأبوية الهائلة التي يعامل بها السيد الكبير (سي علي) كل أهل الدار، بمن فيهم الخدم. والخدم هؤلاء هم المحور الثاني للحياة في القصر، يقومون بأعمالهم كما يتعين عليهم أن يفعلوا، وفيما يجتمعون إلى بعضهم بعضاً يسمحون لأنفسهم بقدر من الحرية اللفظية التي تتيح لهم أن يرووا لنا بعض خفايا القصر، ويعبروا عن مسرّات حياتهم ومنغصاتها. ضمن إطار العرف القائم، تسير الحياة في هذا القصر على المنوال الذي ينبغي أن تسير عليه، وكان يمكنها أن تسير إلى الأبد لولا أن ذلك الزمن المفصل شهد تضامر حدثين لا علاقة لهما ببعضهما بعضاً: فمن ناحية كانت تونس تعيش زمناً انعطافياً هو زمن الانتفاض ضد المحتل الفرنسي للحصول على الاستقلال بقيادة الحزب الدستوري. ومن ناحية ثانية، كانت أروقة القصر تشهد ولادتين: في الطبقات العليا ولادة سارة ابنة الباي سيدي علي، وفي الطبقات السفلى ولادة عليا، ابنة الخادمة خديجة. ولئن كنا عارفين أن سارة هي ابنة رب القصر، فإننا سنجهل من هو والد عليا، لأن عليا، طفلة الخادمة خديجة تأتي، كما ينبغي للوضع أن يكون في تلك الأمكنة، من اللامكان، من العلاقة الجنسية التي تسمح لسادة القصر المذكور بإقامتها مع الخادمات، علاقة تظل مستورة بالتكتم، محاطة بالغموض لا يجرؤ أحد - ولا حتى صاحبة العلاقة نفسها - على البوح بها. كل ما في الأمر أننا نفترض أن عليا يمكن أن تكون ابنة السيد علي، وثمة لمسات حنان أبوية من هذا الأخير وبوح صامت في عيني خديجة يقترحان علينا مثل هذا المنطق. ونحن يمكننا أن نثق على أي حال بعيني خديجة، فهما الصوت الرائع الذي ينطق أكثر من غيره، يبوح أكثر من غيره وسط صمت القصور. صمت القصور هو قاعدة اللعبة كما ستقول «خالتي حدة» لعليا بعد زمن طويل، فما يدور في القصر يجب أن يظل مكتوماً حتى ولو هلكت عليا وهي تبحث بعينيها أولاً، ثم بلسانها وبعد ذلك بغضبها وتمردها، عن أبيها. فخديجة التي تفهم قواعد اللعبة جيداً لا تريد أن تخرقها حتى ولو كان في خرقها سعادة ابنتها. على خلفية هذه العلاقات ترسم مفيدة التلاتلي حكاية فيلمها، وتسير قدماً في كشفها للشخصيات وللعلاقات بينها، وتدع لنا بين الحين والآخر حرية أن نعثر - إذا شئنا - على ترميز يضع كل شخصية وحادثة في إطار تاريخي ومنطقي يكاد يقول لنا إن المخرجة إنما تحاول هنا أن تقول لنا تاريخ تونس نفسها. غير أن الوقوع في فخ الترميز هذا، من شأنه لو وصل إلى منطقه، أن يفقد الفيلم بعضاً من سحره، لكي يظل هذا السحر قائماً يجب على عليا أن تظل عليا، ويجب على حياتها أن تسير تحديداً على الطريق الذي رسمته لها المخرجة. وحياة عليا هي الحياة الوحيدة في القصر التي تخرج عن إطار العلاقات النمطية القائمة منذ أبد الآبدين. لماذا اختارتها مفيدة التلاتلي هي بالذات؟ أمر قد لا يهم التوقف عنده كثيراً، ولكن لا بأس من الإشارة إلى المنعطف التاريخي الذي تطابق مع ولادة عليا وكان هو الدافع الأساس، لأن فتاة مثلها تولد في منعطف تلك الظروف ستكون هي أداة خرق اللعبة، وعلى يديها سينكسر صمت القصور، وليس من قبيل المصادفة هنا أن تصبح عليا مغنية وأن يحررها الفن من مصيرها الذي كان ينذر بأنه سيكون مشابهاً لمصير أمها لا أكثر ولا أقل. غير أن الأمر الذي يحمل دلالته هو أن عليا ستتعلم عزف العود بفضل سارة، رفيقة عمرها، وأن عزف العود هذا سيقودها إلى الغناء، ولكن هل تراها ستصل حقاً إلى حريتها؟ نعود هنا قليلاً إلى الوراء: خلال بحثها المضني والصامت عن أبيها، وبسبب وضعيتها الخاصة تتمكن عليا من التنقل بحرية بين طبقات القصر جميعاً، وتحظى بلفتات حائرة من السيد الكبير، وتعامل من قبل سارة وكأنها أخت لها. وكل هذا يعدنا بمصير لعليا يختلف عن مصير أمها، فالأم خادمة ابنة خدم جاءت إلى القصر وهي في الثانية عشرة ولا ترى أن لها أي مكان آخر خارج القصر، رحلتها الوحيدة ستكون تلك التي تقودها من صمت القصور إلى صمت القبور. غير أنها بصمتها، بكلام عينيها، بخضوعها، ستساهم في زرع بذرة التوق إلى الحرية في نفس ابنتها، تلك البذرة التي سينميها حب الفن، واكتشاف عليا باكراً وضعيتها المميزة. صحيح أن شقيق السيد الكبير، سيحاول «ممارسة حقه» الطبيعي في الاعتداء عليها حين سيكتشف أنها أضحت مراهقة ناضجة، غير أن خديجة ستقف لتقول لا، للمرة الأولى. صحيح أن ال «لا» التي تقولها لا تحمل سوى الرفض أي أنها لا توفر لابنتها أي حل منطقي. لكن عليا ستلتقط الكرة، وتتفتح في الوقت نفسه على الحب عبر تعرفها إلى الشاب لطفي، ابن مدرّس الموسيقى المختبئ في غرفة مديرة الخدم لأنه مطارد من قبل قوات الاحتلال. هذه العناصر كلها ستشتغل في حياة عليا منذ تلك اللحظة. وهي التي ستدفع بها إلى مصيرها الجديد: مصيرها المتحرر من القصر بعد زوال الاحتلال، فهل أوصلها هذا المصير الجديد إلى الانعتاق الكلي الذي كانت تتطلع إليه. وهل هي الآن، خارج القصر، سعيدة كما كانت تريد أن تكون؟ قوة فيلم مفيدة التلاتلي تكمن هنا بالتحديد، عند تلك النقطة المفصلية بين المصيرين: عند ذلك التوازي بين حياة خديجة وحياة عليا. فهذه الأخيرة إذ تنال حريتها بعد «فضيحة» تسببها في القصر حين يُطلب منها أن تغني في فرح سارة، فإذا بها توقف الأغنية الغرامية فجأة لتبدأ بإنشاد أغنية وطنية تونسية تنادي بسيادة الشعب واستقلال البلد - إذاً، اذ تنال عليا حريتها، وتهرب من القصر مع لطفي ستصبح مغنية شهيرة، وستصبح رفيقة حياة لطفي، لكنه لن يتزوجها، وهو كذلك سيطالبها بألا تحتفظ بالطفل الذي تحمله في أحشائها، منه. صحيح أن الرغبة في قول أمور كثيرة في الفيلم مرة واحدة كان من شأنها أن تخلق في الفيلم الكثير من الالتباسات والتقاطعات، غير أن مفيدة التلاتلي التي تقدم لنا هنا فيلمها الروائي الطويل الأول، لم تنسنا أبداً، إنها تعمل في السينما منذ أكثر من عشرين عاماً، وتهتم خصوصاً بمسألة اللغة السينمائية من خلال إشرافها على توليف (مونتاج) بعض أفضل الأفلام الذي تحقق في بلدان المغرب العربي والذي حمل تواقيع مرزاق علواش ونوري بوزيد وفريد بوغدير وناصر خمير وغيرهم. بمعنى أن هذه المخرجة الشابة جاءت إلى الإخراج ناضجة، وهو أمر يبدو واضحاً من خلال رسمها الشخصيات، ومن خلال حركة الممثلين. في اختصار وعلى رغم كلّ شيء قدمت المخرجة هنا، واحداً من أفضل الأفلام التي حققتها امرأة عربية حتى ذلك الحين وربما حتى أيامنا هذه. [email protected]