وجهة النظر المصرية في الموقف / الأزمة، بعد إعادة العلاقات بين القاهرة وطهران، عبّر عنها المجلس العسكري الحاكم في شكل واضح وهي أن التزام مصر أمنَ دول الخليج، وحرصها على العلاقة معها انعكاس لتوجه مصر العربي الثابت، أي لموقعها ودورها وثقافتها، وبالأحرى لهويتها. فالأمر ليس مجرد توجه بل هو انتماء لا نقاش فيه أو خلاف عليه، فما سر سوء الفهم؟ لعله يكمن بين منهجين مختلفين في طريقة التعامل مع مشكلة يتفق الطرفان على توصيفها إلى درجة تشبه التطابق. أما المشكلة فتتمثل في وضعية إيران القلقة والمقلقة وخطابها السياسي العنيف نوعاً وطموحاتها التي لم تتوقف بعد عن محاولة الاستفادة من المكون الطائفي الشيعي في النسيج الاجتماعي لدول عربية، ناهيك عن قضية الجزر الثلاث الإماراتية التي تعاني جموداً سياسياً طويلاً. أما المنهجان فهما منهج المقاطعة من جانب، ومنهج الاحتواء من جانب آخر. أما المقاطعة فهي المنهج المجرب فعلياً عبر ثلاثين سنة راوحت علاقات البلدين خلالها بين الجمود والتوتر لأسباب معلومة. وهو منهج أثبت فشله لأن غياب أية علاقات ديبلوماسية إنما يؤدي إلى إطلاق يد إيران، لأنه في الحقيقة يؤدي إلى تقليص الخيارات المصرية تجاهها، ويحد من فرص المناورة الديبلوماسية والسياسية معها، فإذا قامت إيران بسلوك سياسي عنيف أو غير مقبول ضد دولة خليجية لن يكون أمام مصر سوى أحد خيارين: إما الصمت المصحوب طبعاً بإدانة سياسية أو شجب ديبلوماسي على النحو المألوف عربياً، خصوصاً ضد إسرائيل. وإما التهديد بشن الحرب أو حتى شنها فعلياً ضد السلوك الإيراني. والأمر الذي لا شك فيه هو أن هذا الخيار مكلف وغير مقبول مصرياً ولا حتى خليجياً. وأما خيار الاحتواء فهو المنهج غير المجرب بين البلدين، والذي نتصور أن مصر بصدد ممارسته مع إيران، وهو منهج لن يكون أكثر سوءاً من سلفه إن لم يكن أفضل بكثير، وأكثر نجاعة وفاعلية، وهو منهج يتأسس على إدراكين أساسيين: الإدراك الأول: هو أن إيران ليست عدواً بالمطلق، فهي بلد إسلامي كبير وإن تباين المذهب، وفي تاريخ البلدين لحظات تقارب تشي بإمكانية كبيرة للتفاهم، وحدود أكبر للعمل المشترك يساهم في تحقيق الخلاص السياسي للمنطقة من ربقة التدخل الغربي، والضغط الإسرائيلي، وتكريس نوع من الاستقلال الاستراتيجي لا يعكس فقط خصوصيتها الحضارية، بل يجسد مصالحها المشتركة الحيوية والممتدة، ففي تلك اللحظات المشبعة بالتدافع والتضاغط، والكر والفر، تبقى الكتل التاريخية الراسخة، والأحجام الديموغرافية الكبرى، هي نقطة المفترق بتوثبها وتعاونها للنهوض بعملية الطرد المركزي لعوامل الفوضى، أو بتكاسلها وتناقضها للعب دور المحفز لسيناريو الفوضى، أو الخاضع لحالة الفراغ. لقد حرم البلدان من التعاون الجاد بينهما لمصلحة هذه المهمة النبيلة بفعل ضغوط المركزية الغربية، التي تمكنت من فرض صورة نمطية سلبية على البلد الذي كان يشهد لحظات تحولية كبرى تجعله أكثر وعياً بأصالته الحضارية، وأعمق رغبة في قيادة المنطقة نحو فلك مستقل عن النفوذ الغربي بالمعنى الحضاري الواسع. وقد نجحت الولاياتالمتحدة تحديداً في هذه المهمة عبر آليتين متكاملتين، الأولى هي شيطنة هذا الطرف المدرك والمريد استقلاله الحضاري، والثانية هي احتواء الطرف الآخر الذي افتقد، موقتاً، أصالة الرؤية الحضارية أو نفاذ الإرادة الاستراتيجية حتى لا يتكامل عطاؤه مع الطرف الآخر، حيث تبادل الطرفان مواقفهما عبر حاجز المركزية الغربية، بإلهام حدثين ثوريين في النصف الثاني للقرن العشرين: أولهما: يخص مصر ويتمثل في ثورة تموز (يوليو) ومشروعها التحرري الذي بدا آنذاك وكأنه النقيض الكامل للمشروع الإستعماري الغربي، خصوصاً بعد حرب السويس، بينما كانت إيران الشاه قد دخلت في صداقة مع الولاياتالمتحدة، ومن ثم إسرائيل، وصارت عضواً في سلسلة الأحلاف الغربية حول الاتحاد السوفياتي، والمشروع القومي العربي لمصر. لذا، ساءت العلاقات بين البلدين في النصف الثاني للخمسينات حتى قطعت تماماً عام 1960، إذ لم يكن صعباً أن ترسم الآلة الدعائية الغربية صورة سلبية لمصر عبدالناصر، كما لم يكن ثمة قيد على نفوذ هذه الصورة لدى الإيرانيين وبالأحرى النخبة الإيرانية الضالعة في الاستراتيجية الغربية. وعندما جاء الرئيس السادات إلى الحكم، وتبنى رؤية نقيضة للعالم، كان ثمة عقد من الصداقة بين البلدين انتهى على نحو درامي بخلع الشاه في إيران مع هبوب الثورة الإسلامية، واغتيال السادات في مصر بهبوب العاصفة الإرهابية، إذ بدت المنطقة كلها وكأنها في حالة بحث متوتر ثوري أو دموي عن أصالتها الحضارية. وثانيهما: يخص إيران ويتجسد في ثورتها الإسلامية التي دفعتها إلى تبني مشروع سياسي انقلابي على السيطرة الغربية، خصوصاً الولاياتالمتحدة «الشيطان الأكبر» حيث وفرت أزمة الرهائن المحتجزين في السفارة الأميركية بطهران مادة مثالية لصناعة صورة «شيطانية» لإيران أجادت الدعاية الغربية استغلالها، ولم تكن هناك مناعة مصرية ضدها فاستقرت صورة إيران السلبية في عيون النخبة المصرية واستمر تردد مصر في الاقتراب منها لرغبتها في البقاء ضمن الفضاء الموالي للغرب. تقارب البلدان وتباعدا عبر الحاجز الغربي، ووقعا في أسر صورة نمطية صاغتها الدعاية الغربية، وخضعت علاقتهما معاً لعلاقة كلتيهما بالولاياتالمتحدة فانقطعت السبل أمام تواصلهما، وحرم المشرق العربي الإسلامي من تشارك اثنتين من أبرز كتله الاستراتيجية تجسدان تقاليد اثنتين من أعرق حضارات العالم، ولو حدث ذلك التواصل لربما تغيرت أشياء كثيرة في مقادير المنطقة ومصائرها التي تجسد «القلب الجيوسياسي للإسلام». العلاقات بين الدول لا تقوم على الصداقة وحدها، بل على المصالح سواء القائمة فعلياً أو الممكن قيامها. وفي ظل عالم سياسي ديناميكي وصراعي يفترض أن تكون ثمة تعارضات وربما تناقضات، غير أن تلك التناقضات تحتاج دوماً إلى الحوار بغرض تفكيكها وحلحلتها وليس إلى القطيعة التي تؤدي إما إلى الحرب وإما إلى الجمود. ويمكن الاستشهاد هنا باستمرار العلاقات الاقتصادية والتجارية القوية بين إيران ودول الخليج نفسها، ودولة الإمارات بالذات يبلغ حجم تبادلها التجاري ما يقارب عشرة بلايين دولار على رغم التوتر السياسي القائم، بل ربما جاز القول إن تلك التبادلات وشبكات المصالح كانت بمثابة قيد على التحول نحو إدارة الصراع بوسائل عسكرية تقضي عليها. لقد تمتعت إيران طيلة العقود الثلاثة الماضية بغيابها عن أي إطار تمثيلي إقليمي، واستفادت من قطيعتها مع مصر في جعل نفسها أقرب إلى «القوة الشبح» في المجال الاستراتيجي العربي، فمن ناحية هي قوة فاعلة موجودة في قلب وفي ثنايا أو حتى على هامش جل المشاكل العربية المتفجرة. لكنها من ناحية أخرى غير مرئية بوضوح، ولا يمكن حسبانها لأنها خارج إطار نسق تفاعلات النظام الإقليمي القائم، وغير محاطة بنسيج تفاعلات محكم قادر على مراجعتها أو محاسبتها بل عقابها وتحميلها أعباء سياستها غير الراشدة. فإحدى أدوات العقاب هي التهديد بدفعها خارج ذلك الإطار الإقليمي الذي تتمتع به، أو حرمانها من نسيج العلاقات الودي الذي يحيطها. ويمكننا هنا سرد كثير من الحجج على أن ذلك الموقف الاستراتيجي الذي تمتعت به إيران ك «قوة شبح» قد صب في مصلحتها بل كان أكثر عناصر نجاح سياستها في الحقبة المنصرمة على حساب العالم العربي، الأمر الذي يرجح كفة منهج الاحتواء على منهج المقاطعة، ولكن، هل أحسنت مصر إدارة عملية الانتقال بين المنهجين؟ لدينا هنا اعتراضان أساسيان على تلك العملية لا بد أنهما ساهما في خلق مناخ التوجس الخليجي، بل وربما يساهمان مستقبلاً في تقليل عوائد منهج الاحتواء من منظور مصري وعربي: الاعتراض الأول هو على التوقيت، فثمة تسرّع واضح في المسلك المصري فكأنه مجرد رد فعل من قبل النظام الانتقالي الجديد على مسلك النظام السابق وهو أمر نفسي يتعلق بميل كل نظام جديد إلى الانقلاب على توجهات وريثه، خضوعاً لقاعدة تقليدية وهي أن أعداء عدوي أصدقائي، والعكس. ومن ثم لا بد من أن يكون النظام الجديد أكثر قبولاً وتواصلاً مع إيران، لمجرد أن النظام السابق أوغل في القطيعة معها، والتقارب مع إسرائيل. لقد بدت مصر متسرعة لدرجة أنستها أن تسبق مثل هذا التحول الكبير بشرح وافٍ لدول الخليج المعنية به يوضح لهم أبعاده ومراميه، ويؤكد لها أن علاقة مصر بها مبدئية وتسبق علاقتها بإيران، بل إن توجه مصر الجديد يقصد به تعزيز موقف هذه الدول في مواجهة إيران بزيادة قدرة مصر على احتوائها، وتوفير أطر لمراجعتها ومحاسبتها. ولعله صحيحاً أن مصر قد قامت بشرح موقفها بوضوح، ولكن الصحيح أيضاً أن ذلك جاء تالياً للتحول، وكان يجب أن يسبقه، وقبل أن تتراكم الهواجس حوله. الاعتراض الثاني يتعلق بالحالة التي تمر بها إيران اليوم، والتي كانت تفرض على مصر نوعاً من الانتظار لحين نضوج الموقف السياسي هناك. فمن المعروف أن إيران، منذ التسعينات على الأقل، تشهد نوعاً من التباين بين مراكز إنتاج الرؤية الإيرانية للعالم والإقليم، خصوصاً بين المعتدلين أصحاب الواقعية السياسية مثل رفسنجاني ومحمد خاتمي، والمحافظين من شاكلة المرشد العام للثورة السيد علي خامنئي والرئيس الحالي نجاد. ومنذ الانتخابات الأخيرة عام 2009 ولدت حركة احتجاج إصلاحية حول زعيمي المعارضة مهدي كروبي ومير حسين موسوي، وفي موازاة الثورة المصرية وفي أعقابها تعالت الحركة وتحولت إلى انتفاضة ضد نظام الولي الفقيه، كان من نتائجها وقوع نحو عشرة قتلى وعشرات الجرحى، فضلاً عن وضع كروبي وموسوي قيد الإقامة الجبرية، ومحاولة التضييق على أدوات التفاعل التواصلي للشبكة العنكبوتية، وقيام السيد خامنئي نفسه بتحذير الشباب الإيراني من التعامل بها، على رغم أنه كان قد امتدح تعاطي الشباب المصري معها، قبل أن تصل الاضطرابات إلى عقر داره، وهو أمر يؤكد، من جديد، ازدواجية الخطاب بما فيه من تقية معروفة عن إيران، أو انتهازية سياسية مألوفة لديها. وفي الأيام القليلة الماضية بدا نوع جديد من الانشقاق بين المحافظين أنفسهم، المرشد من ناحية، والرئيس نجاد من الأخرى، ولكلٍّ فريقه على خلفية إقالة نجاد وزير الاستخبارات وتعيين أحد أتباعه، ورفض المرشد ذلك، فيما يبدو عملية فرز على وقع الانتفاضة القائمة، وفي سياق محاولة ترتيب البيت للانتخابات المقبلة. وفي كل الأحوال، فإن عدم استقرار الوضع في إيران، وازدواجية الخطاب السياسي لديها كانا يحتمان تروي مصر في إدارة ملف علاقتها بإيران، على الأقل حتى استقرار الوضع السياسي المصري وتبلور خريطة الحكم الجديد، والاكتفاء خلال هذه الفترة الانتقالية بتقديم إشارات إيجابية من نوعية السماح بعبور السفينتين الإيرانيتين قناةَ السويس، وغيرها من إشارات تعد بعلاقات مستقبلية أفضل من دون قطع بمدى عمقها، أو تسرع بالشروع فيها، قبل أن تطمئن مصر إلى أن ذلك التحول يجد إجماعاً في النخبة الإيرانية، وتثميناً من المخطط الاستراتيجي الإيراني، فلا يكون هناك مجال لرد فعل سلبي في حال عدم توافر هذا الإجماع، أو ذلك التثمين. ويمكن القول أخيراً، إن لا خلاف مصرياً - خليجياً على الغايات النهائية أو الأهداف المرجوة للعلاقة، بل على مناهج عملية لتحقيقها، وفي هذه الحال يتعين على الجميع الحوار بصددها، واختيار البدائل الأنسب لتحقق الأهداف، فليست المشكلة في صداقة طرف عربي أو حتى تحالفه مع هذا البلد أو ذاك، ولكن في القفز السريع إلى صداقات أو تحالفات من دون تحديد دقيق للتحديات، ولا توافق على الأهداف، أو حتى التأكد من جاهزية الأطراف المتحالفة نفسها. والمؤكد هنا ودائماً أن نقطة البداية الصحيحة لأي تحالف أو صداقة مع آخرين إنما هي تجاوز حال الانقسام العربي، فاكتمال الذات الأصلية «العربية» هو الشرط المبدئي لأي تحالف ناجح مع الذوات الأخرى. * كاتب مصري