ثمة مفارقة كبرى بين الثورة المصرية والانتفاضة الدائرة في إيران. لقد تصور السيد علي خامنئي في بداية تفاعلات الثورة المصرية أن لديه القدرة على إدارتها، محاولاً توجيه خطابه إلى المحتجين، مشجعاً لهم وداعياً إلى إقامة دولة إسلامية تكون ضلعاً أساسياً في شرق أوسط إسلامي. لكن المفاجأة أن مصر، ممثَّلةً بحشودها الثائرة، والمُصِرّة على دولة مدنية ديموقراطية تَشْرَع الآن في بنائها، تبدو الآن الأكثر حفزاً لتغيير إيران من داخلها حتى من دون خطاب واحد يصدر عن أيٍّ من قادة مصر الجديدة. كان النموذج المصري الحداثي ملهِماً للشباب الإيراني، إلى درجةٍ أغرته بتجديد انتفاضته على نظام الولي الفقيه، وهو الأمر الذي غذّى حركة الاحتجاج في إيران، والتي كان من نتائجها وقوع نحو عشرة قتلى وعشرات الجرحى حتى الآن، فضلاً عن وضع زعيمَي المعارضة ومرشحَي الانتخابات الرئاسية الماضية، مهدي كروبي ومير حسين موسوي، قيدَ الإقامة الجبرية، ومحاولة التضييق على أدوات التفاعل التواصلي للشبكة العنكبوتية، وقيام السيد خامنئي نفسه بتحذير الشباب الإيراني من التعامل بها، رغم أنه كان قد امتدح تعاطي الشباب المصري معها قبل أن تصل الاضطرابات إلى عقر داره، وهو أمر يؤكد، من جديد، ازدواجية الخطاب الإيراني، بما فيه من تقية معروفة عن إيران أو انتهازية سياسية مألوفة لديها. وعلى رغم العوامل المحيطة بتلك اللحظة، والضاغطة عليها، نتصور أن تحسناً مستقبلياً سيطرأ على العلاقات المصرية الإيرانية، وإنْ بدرجتين محتمَلتين من الشدة والعمق، تحددهما مآلات التفاعل داخل الجمهورية الإسلامية، والتي قد تأخذ اتجاهين أساسيين: الاتجاه الأول يؤدي إلى تحسن جذري في العلاقة بين البلدين المسلمَيْن، وذلك في حال آلت حركة الاحتجاجات المتنامية ضد النظام الإيراني إلى تغييره، فعند ميلاد نظام جديد لاديني يتجاوز أفق الثورة الإسلامية، وهو أمر ممكن في اعتقادنا، وإن لم يكن سريعاً جداً، سيكون التغيير جذريّاً في العلاقة بين البلدين المسلمَيْن، سواء على أرضية براغماتية ورغبةٍ في تحقيق مصالحَ مباشرة ثنائية ولدوافع جيوسياسية تسعى إلى حفظ استقرار الإقليم، أو على أرضية تَجانُس ثقافي ربما يدفع البلدين إلى نوع من التحالف في ما بينهما داخل نظام أمن إقليمي ذي أبعاد إستراتيجية وحضارية، على منوال دعوات ك «رابطة الجوار العربي»، أو حتى «الشرق الأوسط الإسلامي»، ولكنْ بفهم جديد عصري يتأسس على (الإسلام الحضاري)، لا فهمٍ ماضوي تقليدي ينتسب إلى مقولات وممارسات الإسلام السياسي. والاتجاه الثاني يؤدي إلى تحسن نسبي أو ملموس في العلاقة بين البلدين، وذلك في حالة بقاء النظام الإيراني هيكلياً ولكن مع استجابته لإصلاحات سياسية تؤدي إلى انفتاحه وتطوره من الداخل، الأمر الذي يسمح بصعود المعتدلين على حساب المحافظين. ويتدعم هذا الاتجاه بزوال ملمح أساسي، هو الحساسية المفتعلة بين النظامين الإيراني الحالي والمصري السابق، وبإدراك أن أي نظام جديد في مصر سوف يكون أقل رفضاً وعداء، وأكثر قبولاً وتواصلاً مع إيران، لأن النظام السابق أوغل في القطيعة معها والتقارب مع إسرائيل، وكان ذلك خياراً شخصياً للرئيس السابق، فضلاً عن كونه تكيُّفاً مع الرغبة الأميركية، ولم يكن تعبيراً عن المصلحة المصرية. ومن ثم، يُفترض أن أي نظام جديد في مصر يستلهم هذه المصلحة جوهرياً، سوف يكسر هذا المعادلة لصالح الاقتراب من إيران، خصوصاً إذا نمت درجة الاعتدال لديها. يضاف إلى ذلك أمر نفسي، وهو ميل كل نظام جديد إلى الانقلاب على توجهات وريثه، ولذا فإن نظام ما بعد مبارك، أيّاً كان شكله، سوف يميل إلى الاقتراب أكثر مما كان يبتعد عنه النظام السابق، وإلى الابتعاد نوعاً ما عما كان يلتصق به النظام نفسه، وهو ما يصب لصالح إيران. بل يمكن النظر إلى حدث عبور الباخرتين العسكريتين الإيرانيتين أخيراً قناة السويس في هذا السياق، فالمؤكد أن مثل هذا الأمر الذي لم يحدث منذ ثلاثة عقود، ولم يكن متصوَّراً حدوثه في ظل النظام السابق، يعطي مؤشراً للمستقبل الذي حاولت إيران بسرعة شديدة تلمسه واستكشاف أبعاده وحدوده. وفي المقابل، فإن مصر بسلوكها الهادئ، واعتبارِها أن حدث العبور لا يعدو كونَه أمراً طبيعياً يخضع للإجراءات العادية التي تخضع لها كل البواخر الحربية لشتى الدول، قد أعطت الرسالة المرغوبة لإيران، وهي أنها دولة عادية بالنسبة إلى مصر، ولا تمثل عدواً بحال من الأحوال، وأنها ربما كانت صديقاً محتمَلاً. ولأن المجلس العسكري الأعلى هو من أعطى تلك الرسالة، فربما كان المضمون أعمقَ، وهو أن إيران لا تحتل أبداً موضع العدو في «العقيدة العسكرية المصرية»، بصرف النظر عن طبيعة النظام السياسي القادم وتوجهاته. وبينما حاول بعض رموز النظام السابق الأكثر غلوّاً في التقارب من إسرائيل والغرب، والأكثر رغبة في الانفصال عن الدور الإقليمي المصري ومتطلبات التاريخ الحضاري والجغرافيا السياسية، الإيحاءَ بأن إيران هي التحدي الإستراتيجي الأول لمصر، لمجرد أنها استضافت قاتل الرئيس السادات، أو سمَّت باسمه شارعاً في عاصمتها على سبيل المناكفة السياسية، لا يعتقد أي تيار سياسي في مصر بصدقية هذا الصورة، فإيران لم تكن أبداً في حرب مع مصر، بل إنها كانت في يوم من الأيام، زمنَ المماليك والصفويين، حليفاً لها ضد الهيمنة العثمانية. وفي المقابل، تحاربت مصر مع إسرائيل مرات عدة، ولا توجد قرية مصرية إلا ولها دم في رقبة إسرائيل، ولا يوجد مصري واحد توجد لديه مصلحة مباشرة، أو يشعر بأي رغبة في التعاطي معها، أو التراجع عن اعتبارها العدو الأول لمصر. فضلاً عن ذلك، ثمة أمران على الجانب المصري يدعمان التقارب، أولهما وجود تمثيل ما للتيار الإسلامي في هذا النظام السياسي الجديد، سواء عبر المعارضة البرلمانية أو من خلال الوجود في ائتلاف حكومي، ناهيك - مثلاً - عن احتمالٍ ولو بعيد، هو الفوز بالغالبية البرلمانية وتشكيل حكومة فعلية من قبل الإخوان المسلمين. صحيح أنها من المفترض أن تلتزم قواعد الدولة المدنية، وأعتقد أنها سوف تفعل، ولكن هذا لا ينفي مبدئياً استنادها إلى مرجعية إسلامية حضارية على الأقل، ومن ثم اقترابها أكثر من إيران. وثانيهما هو أن الرأي العام المصري لا يحمل ضغائن تذكر نحو إيران، ولا حتى للمذهب الشيعي نفسه، فالمزاج المصري العام بالغ التسامح، ويربطه مع الشيعة حبُّ آل البيت، وتبدو إيران لدى أطياف شتى من النخبة المصرية جاراً جغرافياً، وشريكاً حضارياً، حيث صاغت مع مصر، فضلاً عن العراق الحالي وسورية الكبرى، روحَ وحضارةَ ما سُمِّي دوماً بالشرق الأدنى القديم. * كاتب مصري