الأصولية والسلفية مفردتان تصبان في الدلالة ذاتها، كلاهما يدعو للعودة إلى الأصول، الأولى إلى النصوص والثانية إلى سيرة السلف «الصالح»، أي إلى الممارسة (البراكسيس بالتعبير الماركسي). إنهما يلتقيان إذ يرى الأصولي في النصوص مرجعاً صالحاً ويرى السلفي في سلوك السلف نصوصاً تقتدى. وكلاهما ضد الابتكار والاجتهاد، لأنهما يقتلان المخيلة ويحدان من القدرة على الإبداع، ويجعلان الماضي رابضاً أبدياً على صدر العقل لا يحول ولا يزول. الأصولية أقرب، إذاً، إلى أن تكون حركة فكرية تقارب السياسة من خلال النصوص، بينما السلفية أقرب إلى أن تكون حركة سياسية تقارب الفكر من خلال سير الأسلاف، فيصير الفصل بينهما كالفصل بين الفكر وحامله! بالمنهج الديكارتي، هذا الأمر ممكن. وبغيره يختلط حابل الثورة بنابل الظلامية. ارتبط الكلام على الأصولية والسلفية بالحركات الدينية التي نشأت، في صيغتها الحديثة، مع الجيل الأول من رواد النهضة العربية. أما الصيغ القديمة فبعضها يرقى إلى مرحلة «العقل العربي» بالتعبير الجابري، أو إلى ما قبله، حيث الصراع كان، في أحد وجوهه، بين العقل والنص، أي بين الإبداع والتحجر، أو بين الثابت والمتحول (أدونيس) أو بين التقليد والتجديد، ثم صار، في زماننا، بين الأصالة (العودة إلى الأصول) والحداثة (كأن الحداثة خروج على الأصول)، أو بين العلم والإيمان، أو بين الشرق والغرب، وهي كلها ثنائيات مغلوطة لا تصلح لتشخيص أزماتنا ولا لوصف العلاج. ليس دفاعاً عن الأصوليات الدينية اخترنا العنوان، فقصدنا أن نتحدث عن أصوليات غير دينية، بل لأن التباس أدوارنا في حل الأزمات العربية، القطرية والقومية، يقتضي القيام بعملية نقد للنصوص وللأسلاف على حد سواء، ويكون النقد أكثر جدوى وصدقية إن هو بدأ بنقد الذات قبل نقد الآخر. من هنا كانت فرضيتنا عن وجود أصوليات ماركسية وأخرى قومية، بدأنا بالكتابة عنها منذ مطلع التسعينات (وتركز معظم النقد حول الأصوليات الماركسية). اليوم، مع عصر الثورات العربية صار ينبغي أن يكون نقد الأصولية القومية أكثر جرأة، بل صار يستساغ الكلام اليوم عن وجود قاسم مشترك كبير بين المكونات الدينية والاشتراكية داخل الحركة القومية. الحركة القومية بكل مكوناتها انطلقت من أن سبب الأزمة خارجي: إنه الصهيونية والإمبريالية والاستعمار (والرجعية بصفتها من عملاء الاستعمار والاستكبار...). ومن سلالة هذا الاعتقاد وعلى أساسه نشأت نظريات ووضعت خطط للمواجهة، كان من أبرزها نظرية المؤامرة وخطة الممانعة. ومنهما توالدت سلسلة من المصائب المتتالية من النكبة إلى النكسة إلى نقض شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية بل إلى تحقيق نقائضها، إذ بديلاً عن الوحدة تفككت دول وأوطان، وبديلاً عن الحرية انتشرت الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ وبديلاً عن «البحبوحة» الاشتراكية و «الرفاه» الرأسمالي كان هناك جوع وأمية وتخلف ودويلات قراصنة وقبائل وعشائر وأفخاذ، الخ. وصولاً إلى كل الانتصارات الوهمية التي سوغت بقاء القائد إلى الأبد وبررت الاستبداد. نظرية المؤامرة سلطت الضوء على عدو خارجي، ما يعني أن وحدة الأوطان العربية والأمة العربية ليست ضرورة بنيوية داخلية بل هي حاجة وأداة تمليها آليات المواجهة مع العدو الخارج. هذا منبع الشوفينية والتعصب وكره الآخر، الآخر الذي يبدأ بالأجنبي والغريب، وينتهي بالرأي المختلف حتى لو كان صاحب هذا الرأي ابن جلدتك وشريكك في المواطنية. وهو منبع الاستبداد (لأن من معاني الاستبداد الاستفراد بالرأي) وبالتالي تغييب الديموقراطية، ولهذا لم توضع الديموقراطية على جدول عمل التاريخ العربي الحديث، إلا مع الثورات المظفرة الراهنة. نظرية المؤامرة غيبت الأسباب الحقيقية لبقاء الأمة العربية في عداد دول العالم الثالث، ثم سقوطها في خانة الرابع أو الخامس في التصنيف. وهي التي صوبت النظر إلى غير المصدر الحقيقي للتخلف، بل إلى غير تاريخه الحقيقي. إذ هو يعود بحسبها إلى مرحلة الاستعمار، في حين أنه متأصل في تاريخ أبعد، أي منذ أن دخلت الأمة عصر الانحطاط وانهيار الدولة العباسية والحروب الصليبية وتيمورلنك وهولاكو والمغول وتدمير المكتبات، وخروج العرب من الأندلس، وبالتالي سيادة الجهل والأمية في ليل الأمة الطويل. لا يجوز إدراج هذا الكلام في خانة الدفاع عن الاستعمار والصهيونية والقوى الخارجية كلها، بل هو دعوة إلى إزالة الأوهام عن مناهج النظر إلى تاريخنا القريب والبعيد وإعادة الاعتبار للتحليل العلمي ولدور العوامل الداخلية الحاسم في صنع التاريخ، من غير إغفال لتأثير ما ودور يمكن أن تلعبه القوى الخارجية. أليس هذا ما أثبتته الثورات العربية التي صنعها شباب تونس ومصر على سبيل المثل، ذلك أن قوى الغرب و «الاستعمار والصهيونية والاستكبار» ارتبكت حيالها، ولم تعرف كيف تتخذ موقفاً أو قراراً بالتأييد أو بالتنديد، غير أن هذه الثورات كشفت ستار الوهم عن نظرية المؤامرة، إذ لم يقتصر الارتباك على الخارج بل أصاب في الصميم العقل السياسي القومي المهيمن على الأمة العربية، ذلك أن القوى القومية، بتياراتها الأصولية المختلفة، توزعت بين مؤيد ومعارض ومتردد، لأن الخيط الهادي في تحليلها انقطع أمام عاملين مستجدين في تطورات المنطقة: الأول تشديد الثوار على العامل الداخلي مختصراً بمحاربة الاستبداد ومرموزاً إليه بشعار إسقاط نظام التوريث السياسي والفساد وقوانين الطوارئ، والثاني دخول ظهور القوى الخارجية كعامل ملتحق بالأحداث لا كصانع لها. من الطبيعي أن تتناسل من نظرية المؤامرة خطة للمواجهة استقر اسمها على «الممانعة» بعد أن استخدم الفكر القومي الأصولي للتعبير عنها مصطلح «الصمود والتصدي». المشترك بين العبارتين، على كل حال، هو سلبية الخطة واختيار الدفاع بدل الهجوم. ذلك يعني أن الأصولية، على أنواعها كانت تعرف ما لا تريده، وترتبك في تصوير ما تريده. كل الأصوليات، بهذا المعنى أقرب إلى منطق الرفض الذي لا يبني خطة ولا وطناً ولا حضارة بل يكتفي بالانكماش على الذات والتقوقع على العجز. اللاءات لا تبني وطناً، قيل هذا عند تأسيس الجمهورية اللبنانية، وقيل كذلك في غمرة النضال الفلسطيني المسلح. ما يبني هو المشروع الإيجابي لا الخطة السلبية. الممانعة تعني، ظاهرياً فقط، عدم الموافقة على ما «يطبخه» العدو الخارجي، والبقاء في الانتظار، إلى أن تنتصر المؤامرة أو تتغير الظروف فيتراجع أصحابها عنها، وفي الحالتين تدعي الممانعة لنفسها شرف عدم التفريط، النظري فقط، بالقضية. غير أن هذا هو التفريط بعينه، لأن التاريخ لا يقبل الانتظار ولا يسير بوتيرة الممانعين. الحركة القومية العربية وافقت على التقسيم الذي كانت قد رفضته غداة النكبة. كان الثمن نكسة أو نكبة جديدة وعشرين عاماً من الممانعة تصدياً للمستبد الخارجي وتعزيزاً للاستبداد الداخلي. وهي وافقت على الصلح والمفاوضات والاعتراف في مدريد بعد أن كانت قد رفضته في لاءات الخرطوم الشهيرة. كان الثمن انخراط الحركة القومية كلها في غزو العراق، وثلاثة عقود من الحروب والحروب الأهلية من المحيط إلى الخليج. الدخول إلى مرحلة الهيمنة الأصولية كلفنا قرنين من القراءات المغلوطة للتارخ ومن البرامج المستحيلة التي اختارت إما شد التاريخ إلى الوراء وإما القفز فوق التاريخ. ينبغي ألا يكون الخروج منها مؤلماً ومكلفاً مثل الدخول إليها. * كاتب لبناني