تتعرض الثورات العربية الى هجوم مضاد. يشارك في هدم فكرة التغيير الديموقراطي العربي، تحالف كريه من عتاة الديكتاتورية الامنية وفلول الأنظمة المنهارة ومدّعي اليسارية والعلمانية، إلى جانب بعض التيارات الدينية الملتبسة الخلفيات والتوجهات. جاء كل واحد من هؤلاء إلى ساحة الثورات المضادة بذرائع شتى. اتباع الديكتاتوريات يقولون إن الأوضاع في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، تُظهر بما لا يدع مجالاً للشك في أن الثورات اطاحت الاستقرار السابق وأن الأمان الذي كان يعيشه المواطنون العرب، برغم تجاوزات الأجهزة الامنية، حلّ مكانه شبح حرب أهلية وفوضى. بقايا الأنظمة السابقة تعمل، من جهتها، على إفشال كل ما تقوم به الحكومات الجديدة مستعينة على أداء مهمتها هذه بكل صنوف التشكيك واختراق المؤسسات العامة والتهويل على جمهور المواطنين، بمخاطر الجوع والفقر اللذين ستجلبهما الثورات. أما «اليساريون والعلمانيون» فانتبهوا وراحوا ينبّهون الى تفشي التيار «السلفي» وقبضه على لجام الثورات في مصر وليبيا واليمن (تونس سيأتيها الدور، برأيهم، بعد الانتخابات التشريعية). ورُفعت الحجب عن بعضهم إلى حد اكتشاف الحقيقة الجلية القائلة إن الثورة السورية الجارية اضطرت الى كشف وجهها «السلفي» بعدما سقط القناع المدني الديموقراطي عن نظيرتها المصرية، وانكشفت، في حوادث امبابة وما سبقها من نشاط لا سابق له لشيوخ ودعاة التيار السلفي، حقيقة الطرف الذي يقود الثورة عملياً، والعداء الذي يكنه للأقليات والديموقراطية وللحريات. يصب كل هذا الكلام الماء في طواحين الأنظمة المترنحة. وهو على غرار الخطاب الرسمي العربي، لا يقدم حلولاً للظواهر التي تطفو على سطح المجتمعات العربية بعد انزياح قبضة الديكتاتوريات، سوى بالإحالة على ماضي الاستقرار والمواقف الحكيمة وانكشاف المؤامرات الاميركية – الاسرائيلية التي انتجت الثورات العربية. ولنا في عراق ما بعد صدام حسين درس بليغ في كيفية نظر «العقل» السياسي العربي المتكلس الى التغيرات الكبرى وحالة الانكار والصدمة التي أصيب بها جراء بروز النزعات الطائفية والمذهبية، مرجعاً كل العنف الذي انزله العراقيون ببعضهم إلى الاحتلال (وهذا غير بريء) والتدخلات الخارجية (وهذه حقيقية ايضاً)، من دون الاعتراف بوجود أزمة داخلية بين المكونات العراقية. بالعودة الى الثورات الحالية، يتعين القول انها بدأت تستشعر وطأة الهجوم المضاد للتحالف المناهض لها. بالعنف وبالاعلام. برفض الحوار وبتغذية النزعات الطائفية واحياء العصبيات الجهوية. على أن هذا غيض من فيض ممّا يخبئه النظام العربي القديم ضد ذلك الجديد الآخذ في التشكل. فالقديم يأبى ان يموت فيما الجديد لم يولد بعد، على ما تقول العبارة الشهيرة. وعلى جمهور الثورات العربية ألا يفاجأ بوقوف من كان يفترض انهم من المدافعين عن حقه في التغيير السلمي والديموقراطي، إلى جانب الديكتاتوريات العسكرية العائلية. وإذا أردنا المزيد من الصراحة، علينا القول إن الثورات العربية بطرحها مسألة الديموقراطية، احيت مخاوف الاقليات والاثنيات، المبررة والمشروعة والتي ستجد حلولاً لها ضمن الثورات العربية وليس بالوقوف ضدها. ولا بدع في أن التحريض المذهبي والطائفي الذي تلجأ اليه حكومات بعينها لشد عصب الاقليات، يراهن على عنصر الخوف ويفبرك المحرضون شعارات وممارسات لالصاقها بالثورات. لن تكون سهلة مهمة اظهار البراءة من الاتهامات المشينة. لكن في المقابل، ينبغي على ابناء الاقليات الانتباه الى المنزلقات التي تدفعهم قوى الظلام والردة اليها. وبغير الانتباه ستكون العواقب وخيمة على الجميع.