هل «تصنع» روسيا الكونغرس الأميركي المقبل، عبر تدخّل إلكتروني محوره الذكاء الاصطناعي وال «سوشال ميديا»؟ لمَ لا؟ ألم يكن ذلك في قلب اتهامها بالتدخُّل لمصلحة الرئيس الشعبوي دونالد ترامب؟ ما زال الانشطار العمودي متفاقماً في المجتمع الأميركي، وما زالت المؤسّسة السياسيّة الأميركيّة منقسمة، كما ظهر في إقرار برنامج ضرائبي تاريخي وإشكالي بغالبية صوت وحيد، والتراشق بين ترامب ومُخَطّطه الإستراتيجي السابق ستيف بانون الذي يتهم ابن ترامب بارتكاب خيانة وطنيّة مع الروس! «سيعودون إلى التدخل في انتخابات الكونغرس عام 2018... لأنهم استخلصوا درساً مفاده أنهم نجحوا بفعل قدرتهم في نشر الانقسام والفوضى والخلاف». بتلك الكلمات الحاسمة، عبّر المدير السابق ل «إف بي آي» جيمس كومي عن رأيه في التدخّل الإلكتروني الروسي في الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة الأخيرة، قبيل إعفائه من مسؤولية التحقيق في الأمر. وتزامناً مع تراشق ترامب- بانون، ارتفع في «الضفة الأخرى للأطلسي»، صوت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليصب زيتاً على نار أزمة فعليّة تعانيها الديموقراطية المعاصرة، خصوصاً الانتخابات، أساس الشرعية. وفي سياق شرحه قانوناً مخصصاً لدرء «التدخّل الملوّث» أثناء الفترات الانتخابيّة، لمّح ماكرون إلى وسائل الإعلام الروسيّة، خصوصاً «سبوتنيك» و «آر تي»، بوصفها مصدراً ل «الأخبار الكاذبة» التي تُنشَر عمداً في ال «سوشال ميديا»، عبر آليات إلكترونيّة. ولمس ماكرون جرحاً مفتوحاً في النقاش عن مآل مشروع الديموقراطية عموماً، في ظل صعود ظاهرة ال «سوشال ميديا» وانتشار الإنترنت (عمادَيْ التدخّل)، عندما ميّز بين «ديموقراطيّة ليبيراليّة» و «ديموقراطيّة غير ليبيراليّة»، في إشارة إلى النظام الروسي وما يشبهه. الأرجح أنّ مسألة التدخّل ومقاومته صارتا بُعداً جديداً في المسار التاريخي للديموقراطية. فهل يعي لبنان المقبل على انتخابات برلمانية حسّاسة، خطر التدخّل الإلكتروني الذي قد يطاول استحقاقه؟ لنعد إلى واشنطن التي ارتسمت فيها ملامح سابقة للتدخل الإلكتروني في انتخابات ديموقراطيّة، إذ ظهر سيناريو قوامه أنّ جهة أجنبيّة (يفترض أنها روسيا) تمرّست في تدريب حواسيبها على أساليب متقدّمة في «تعلّم الآلات»، كي تحصل على الملامح الرئيسة للناخب الذي يمكِن حضّه على التصويت لترامب. وبعدها، تولّت الآلات بذكائها الاصطناعي المتقدّم، تحليل كميّات ضخمة من المعلومات عن الجمهور الناخب، تمّ تحصيلها من مواقع ملايين الأفراد على شبكات التواصل الاجتماعي (سوشال ميديا). وبعدها، نُشِرَت بحذق فائق شبكةٌ من المواقع الإخباريّة والفرديّة والوهميّة وغيرها، على «سوشال ميديا»، كي تضخّ أخباراً من نمط معين. وصارت تضرب على «عصب حسّاس» عند الناخب المفترض تأييده لترامب. والشيء الرئيسي الذي تركز عليه تقنيات «تعلّم الآلات» (Machine Learning) هو تحليل البيانات وربط ما يتشابه ويتقارب منها، ثم استخراج نمط معين. وركّز الروس على الأنماط المتصلة بالبيض في ولايات أميركية تدهورت أحوالها اقتصادياً لأسباب تتصل بنقل صناعات إلى الخارج عبر العولمة، وكذلك بسبب استبدالها بأيدٍ عاملة مهاجرة تقبل أجوراً متدنيّة. وتبيّن أيضاً أنّ تلك الشرائح تتميّز بأن معظم أفرادها يميلون إلى تصديق أخبار متطرّفة وغير مألوفة بفعل انعدام ثقتهم بالمؤسّسة السياسيّة، وهم لا يملكون وقتاً كافياً للتدقيق بالأخبار لأنهم يعملون ساعات طويلة للإيفاء بمتطلّبات عيشهم. وركّز الروس على تلك الشرائح، ثم كان من أمر التدخّل ما كان. ليس تعبير «الأخبار الكاذبة» سوى إشارة إلى تلك الأخبار التي تكون أحياناً صادقة! إذ اعتمد التدخّل الإلكتروني الروسي أيضاً على معلومات سرقها «قراصنة» (هاكرز) يرجح أنهم روس، من اللجنة العليا في الحزب الديموقراطي، وتضمّنت أخباراً صحيحة عن هيلاري كلينتون، لكنها مؤذية لها. وعلى سبيل المثال، نُشرت وثائق عن مساندة ضمنيّة من رئاسة الحزب لهيلاري ضد منافسها السيناتور (الاشتراكي) بيرني ساندرز، وساهم ذلك في تأجيج «نظرية المؤامرة» التي دفعت بمؤيّدي الأخير إلى النأي عن التصويت لكلينتون. وماذا لو جُرّب الأمر نفسه في انتخابات لبنان؟ فهناك أكثر من طرف إقليمي متمرّس بالأساليب الإلكترونية. هناك طهران (بما لها من باع طويلة في الصراعات الإلكترونيّة مع استفادتها من كوريا الشمالية والصين وربما روسيا) ودمشق (الجيش الإلكتروني السوري)، وكذلك الأذرع الإلكترونيّة لتنظيمي «داعش» و «النصرة»، إضافة إلى تل أبيب بقدراتها المتطوّرة في المعلوماتيّة.