أسقط المشهد السينمائي اللبناني عام 2017 مقولتين مفادهما أن الجمهور لا يحاسب و «الجمهور عايز كدا». فعلى رغم انتشار الأفلام التجارية، ظهرت في صدارة هذا المشهد أفلام من نوع آخر تحاكي الإبداع السينمائي الدولي، أفلام نجحت في أن تجوب العالم في عروضها وأن تحقق جوائز عالمية، لعل أبرزها ترشيح فيلم «قضية رقم 23» (L'insulte) للمخرج اللبناني الفرنسي زياد دويري إلى جائزة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي لعام 2018، بعد فوز الممثل الفلسطيني كامل الباشا بجائزة أفضل ممثل عن دوره في الفيلم ذاته في مهرجان البندقية. إلّا أن هذا الإبداع السينمائي والفني لم يحُل دون مساءلة بعض «الناطقين» باسم بعض الجمهور للمخرج زياد دويري عن دوره في التطبيع من خلال فيلمه السابق «الصدمة» الذي أنجزه عام 2013 مصوّراً بعض مشاهده في تل أبيب، بحيث كانت من تبعات ذلك أن مُنِع فيلم «قضية رقم 23» في مهرجان أيام سينمائية الفلسطيني وفي قصر رام الله الثقافي. وكعادته، انقسم الجمهور اللبناني عمودياً بين داعم ومناهض، مع العلم أنّه كان بإمكان الدويري تصوير مشاهد فيلمه هذه في أي مكان آخر من العالم. إذاً، أربع سنوات لم تمحُ للدويري آثار ما فعل، لا بل تأجّج أكثر فأكثر، وأدّى على رغم عرض فيلم «قضية رقم 23» في لبنان، إلى مقاطعة شعبية له من البعض، وعلى رأسهم حركة مقاطعة إسرائيل، فيما شهد إقبالاً جماهيرياً كبيراً من البعض الآخر. يطرح الدويري في فيلمه أسئلة على المستوى الدرامي والفني مستقاة من واقع اجتماعي ما زلنا نعيشه حتى اليوم، من خلال مشادّة حادة بين طوني المسيحي اليميني وياسر اللاجئ الفلسطيني المسلم المقيم في بيروت، وقد تحوّلت هذه المشادة إلى مواجهة في المحكمة كادت تُحدِث شرخاً اجتماعياً بسبب التضخيم الإعلامي لها. ما حدا بكل من الرجلين إلى مراجعة مسلّماته وأحكامه المسبقة. يروي الدويري في فيلمه هذا قصة تتماهى مع مئات القصص التي قد تحدث في لبنان يومياً، إلا أنّه يزيد من جرعتها الدرامية من خلال نقلها إلى قاعة المحكمة. هل تسمع؟ أما فيلم «اسمعي» (Listen) أحدث أفلام فيليب عرقتنجي، حتى اليوم، فقد خطا خطوته الأولى نحو اختياره ضمن الأفلام المرشحة لجوائز «غولدن غلوب» عن فئة الأفلام الأجنبية في اللائحة الأولية التمهيدية للترشيحات، حيث أنّ أَخْذ الصوت والسمع والاشتغال عليهما يعدّان خطوة جريئة لعرقتنجي، الذي وظَّف هذين العاملين في قصة حب بسيطة تجمع بين ممثلة شابة اسمها رنا ومهندس الصوت جود. تتعرّض رنا لحادث سير يفقدها وعيها، ويحاول جود من خلال الصوت إعادتها إلى عالم الواقع، فراح يُسمِعها أصواتاً من الحياة العامة، كان يواظب على إرسالها إليها بواسطة شقيقتها مروى. تنتمي قصة عرقتنجي بمقاربتها إلى أسلوب السهل الممتنع الذي يستند إلى الحب ليحمّله رسائل اجتماعية. لا تخلُ هذه المقاربة، كما عوّدنا عرقتنجي، من المواقف الحميمة التي تبدو متماهية مع سياق الفيلم حيناً ومقتحمة عليه أحياناً. وقد اتّسم المخرج في هذا العمل، كما في أعماله السابقة، بجرأته على كسر التابوات، إلّا أن ما يشوب الفيلم هو عدم خلوّه من الجنس غير الموظَّف. وشهد هذا العام، كما العامين السابقين، عدداً من الإنتاجات الوثائقية التي تستحق التوقّف عندها كفيلم «مخدومين» (A Maid For Each) لماهر أبي سمرا الذي عُرِض في مهرجانات عالمية وحصد العديد من الجوائز الدولية. تدور أحداث الفيلم في وكالة لاستقدام العاملات في الخدمة المنزلية من دول آسيوية وأفريقية مصوّراً وقائع العمل اليومي فيه، مستعرضاً المسؤوليات الملقاة على عاتق صاحب الوكالة زين، دون أن يُظهر المعاناة أو واقع الحال الخاص بالخادمة، كما فعلت غالبية الأفلام التي تناولت هذا الموضوع أو تطرقت إليه. ويتحدّث أبو سمرا في الفيلم عن تجربته الشخصية وتجربة عائلته مع عاملة الخدمة المنزلية كخلفية صوتية مع إظهار مشاهد خارجية كنوع من التمويه الإستيتيكي السينمائي الذي يجعل من الفيلم ذا طابع توثيقي أكثر منه وثائقي من خلال مقاربة الأحداث التي تحصل داخل المكتب، ومن ثم الخلوص إلى الحديث عن التجربة الشخصية. ثورة منسيّة أما الفيلم الوثائقي «شعور أكبر من الحب» لماري جرمانوس سابا، فقد لاحت فكرته عام 2010 ليبصر النور عام 2017، ووصل إلى «مهرجان برلين السينمائي الدولي»، حيث حصل على جائزة الاتحاد الدولي لنقّاد السينما «فيبرسي». تتعامل جرمانوس في هذا الفيلم مع ثورة منسية، محاولة الحؤول دون إغفال حادثتين نشَبتا في أحد مصانع الشوكولاته ومن مزارعي التبغ، رفضاً للاحتكار، في سبعينيات القرن الماضي، لتقوم قوات الجيش بمنعهما فيسقط قتيلان في كل واقعة. تسعى جرمانوس من خلال هذا الفيلم إلى ربط الحاضر بالماضي، خصوصاً مع اندلاع الثورات العربية، وفي ظلّ كون أسباب التمرّد ما زالت قائمة. هذا فضلاً عن وثائقي «شارع بيروت: هيب هوب في لبنان» لسليم صعب الذي يلقي الضوء على مشهدية حضارة الهيب هوب في لبنان، مظهراً شهادات لفنانين مختلفين في هذا السياق. ووثائقي «خيوط السرد» (Stitching Palestine) للمخرجة اللبنانية ذات الجذور الفلسطينية كارول منصور، والذي يُجري حواراً في قالب توثيقي مع اثنتي عشرة سيدة فلسطينية ويتناول ذاكرتهن حول الأرض المسلوبة، ويعبّرن عنها من خلال ممارسة فنون الحياكة التقليدية التي تشكّل جزءاً من الموروث الفني والثقافي الفلسطيني العريق. وقد فاز الفيلم بجائزة الجمهور في مهرجان الفيلم الفلسطيني في بوسطن، وجال في عروض حول العالم. ويمكن أخيراً، أن نضيف إلى تلك الأعمال المتفاوتة في تميّزها، إنتاجات أخرى تتّخذ طابعاً تجارياً أكبر، وهي عادة ما يلعب أدوار البطولة فيها نجوم شاشات التلفزة والمطربون- وهذا يبدو التجديد الوحيد فيها!- فتبدو بالتالي، وكأنها امتداد لما يقدّم على الشاشات الصغيرة لا أكثر ولا أقل، مثل: «بغمضة عين»، «آند آكشن»، «حبة كاراميل»، «زفافيان» و «بالغلط».