في كل ليلة يختار الرصيف الذي سينام عليه. أحسّ بالاشتياق إلى مذاق اللحم الذي حرمه الفقر منه. هرولت قدماه إلى محل الجزارة. أمامه امتد رصيف كبير مشبع برائحة اللحم. أحضر كرتونة كبيرة، ورش الرصيف بماء من المبرد، ثم أشعل سيجارته، وأخذ يقرأ ما تيسّر له من كلمات العشق والحب. دلف من بين سطور الكلمات، وهام في فضاءات الأحلام. بحث عن حب بقي حتى الساعة رهين محبسي الفقر والخوف. هذا الخوف من مجرد التفكير بالتعلق بفتاة يمكنها أن تشعل جذوة العشق والحب داخله. على هذا الرصيف الذي تقاسم مع الكآبة عملية امتصاصه، كان ينظر كالعادة إلى كل عابرة تمر أمامه؛ يتفحص جسدها، لكنه يحرق صورتها في عينيه بمجرد أن تختفي، ويبدأ في التقاط صورة جديدة لعابرة أخرى. كان يكتفي بمتابعة العابرات مِن دون أن تتحرك شهوته أو يسيل لعابه؛ ربما لأنه كان دائماً مشغولاً بالهرولة خلف لقمة العيش منذ نعومة أظفاره، فوضع قلبه في تابوت. غطّ في نوم عميق، وتحوّل الرصيف إلى فراش من حرير على قارب يعبر نهر السعادة، تسمع أذناه أنشودة عذبة، وخرير ماء؛ مع كلمات حب جعلته يقفز فرحاً، ويرمي بجسده في النهر. أفاق على ضربة قوية على عنقه من شرطي. راح يجمع أشلاءه المبعثرة، وهو يستجدي العساكر ليتركوه. سحب من تحت وسادته قلماً مشبعاً بالهموم، وورقة بيضاء في انتظار أن يحملها كل همومه، ويكتب فيها كذلك تلك اللحظات الحالمة التي شعر بها منذ دقائق. اخترق صوت الشيخ عبدالجليل هذا الهدوء. كان يصرخ:- أنا المهدي المنتظر. هرولت خلف الشيخ فتاة جميلة ترتدي ملابس النوم، يصل شعرها إلى منتصف ظهرها، عيناها عسليتان، ووجهها يكاد يلمع في الظلام. أمسك بالشيخ عبدالجليل وهدَّأ من روعه، وأشعل له سيجارة، دخّنها حتى غلب عليه النوم، وانتابته رعشة حين لمست يد ابنة الشيخ كفه. حمل الشيخ عبدالجليل على ظهره، وأعاده إلى بيته، وكلمات الإعجاب من بنت الشيخ تحفه، وحين وضعت يدها الرقيقة على عنقه التي داسها العسكري بحذائه، شعر بسعادة لم يعرفها مِن قبل. كلما انتصف الليل خرج الشيخ عبدالجليل للصراخ، كأنه يرتب لموعد غرام بين ذاك المتوسد الرصيف وابنته. في ليلة انقطع التيار الكهربائي، انتظرها أن تأتي. انتظر صوت الشيخ عبدالجليل طويلاً حتى مضت سبع ليالٍ. وأخيراً خرج الشيخ، لكنها لم تخرج خلفه. حمل الشيخ، وذهب به، وأخذ يطرق الباب، فإذا برجل يخرج عليه بملابسه الداخلية، زاعقاً في الشيخ:- خلاص، كفاية فضايح، واعمل حساب اني جوز بنتك. أحسّ أن الخرس عقد لسانه. عاد إلى الرصيف، محاولاً استئناف النوم، ولكن من دون جدوى.