أظهرت «ثورة يناير» أن صناعة الأخبار في مصر تعاني تراجعاً كبيراً في المستوى على رغم وجود كفاءات أثبتت جدارتها عبر الفضائيات العربية التي شكّلت بديلاً للجمهور المصري عن قنواته المحلية الهشة، ما حدا بعدد من الأصوات الى المطالبة بإنشاء إخبارية مصرية تلتزم معايير المهنية وتتمتع بالحرية. ويرى أستاذ الإعلام في جامعة القاهرة صفوت العالم انه «لا بد من التمييز بين قناتي «الجزيرة» و«العربية» والقنوات الإخبارية الأخرى، فبينما يتزايد عدد الممولين لهاتين القناتين، تقف القنوات الأخرى عاجزة عن تمويل برامجها، لمحدودية مشاهديها». ويضيف: «القنوات الغنائية والمنوعات مادتها واحدة، فإذا أردت أن تستمع مثلاً إلى أغنيات فيها من الإثارة ما تخجل منه العين، فهي متاحة، وليس هناك انفراد أو تميز. وبعض هذه القنوات يتفنن في اجتذاب المشاهدين من خلال الرسائل أو الدعوة المصحوبة بالإثارة للاتصالات الهاتفية، وكذلك المسابقات وجوائزها الوهمية، وكل ذلك يزيد كمّ المشاهدة والإعلانات والبرامج الإعلانية المكفولة، في الوقت الذي نجد قيوداً على البرامج ونوعية المعلن داخل القنوات الإخبارية. كما ان مُشاهد الإخباريات عادة انتقائي، ووقته محدود، ووعيه جيد، لذلك يبحث مثلاً عن هيكل في «الجزيرة» أو برنامج «بانوراما» على «العربية». وبالتالي طبيعة الجمهور هي التي كانت تجذب المعلن والمستثمر نحو إنشاء قنوات منوعات. أما الآن، وبعد «ثورة يناير»، فإن هذه النظرية تغيرت، وأصبح الجمهور المصري أكثر وعياً، بالتالي لا بد من التجاوب مع اهتماماته وتقديم منتج إخباري عالي الجودة يتميز بالموضوعية والحياد، والحرية». ويعتبر الإعلامي المصري محمود سلطان، أن المستثمرين يبحثون عن المكسب السريع، لذلك يفضلون إنشاء قنوات الأغاني التي تجلب لهم أموالاً طائلة بتكلفة قليلة مقارنة بقنوات الأخبار عالية التكلفة. ويقول: «إذا فكرنا في إنشاء إخبارية خاصة، فإنه لا بد من تكاتف مجموعة من الشركات المساهمة من أجل العمل لإنشاء قناة تتميز بسرعة نقل الخبر والتغطية المباشرة للأحداث وإعطائها مساحة كبيرة من الحرية». ويشير الإعلامي حمدي الكنيسي، رئيس الإذاعة السابق، الى ان إنشاء أي قناة إخبارية لا بد من أن يأخذ في الحسبان القنوات الناجحة، مثل «سي أن أن» و«بي بي سي» و«فوكس» و«الجزيرة» و«العربية» كمثال ونموذج، ولا بد من أن تحرص هذه القناة على التغطية الإخبارية الفورية، مع وجود عدد كبير من المراسلين في أنحاء العالم، علماً أن نقل الرسالة من هذه الدول مكلف جداً. وإذا قارنّا كل الأنشطة التي تغطيها القناة الإخبارية بغيرها من القنوات الغنائية والعامة، سنجد أن هناك فرقاً شاسعاً في التكلفة المادية، وبما أن رجال الأعمال عموماً في منطقتنا العربية يهمهم العائد السريع وقلة التكاليف، فإنهم يتجهون نحو القنوات الغنائية والمنوعات. لذا لا تجد خطوةُ الإقدام على تمويل فضائية إخبارية كبيرة الحماسَ الكافي، رغم أن الفترة المقبلة في مصر ستجد اهتماماً كبيراً بصناعة الأخبار». المخرج محمد بلال، الذي عمل سنوات طويلة في مجال صناعة الأخبار، ويخرج الآن برنامج «90 دقيقة» على شاشة «المحور» يستشهد بتجربة «بي بي سي»، ويرى أنها النموذج الأمثل، ويقول: «موازنة «بي بي سي» معلنة، وكانت 19 مليون جنيه إسترليني، عندما كان البث 12 ساعة يومياً، ثم زادت إلى 25 مليوناً عندما وصل البث إلى 24 ساعة، ويقسم هذا المبلغ بين خدمات الراديو على الموجات المتوسطة والطويلة والقناة العربية التي امتدت خدماتها لأربع وعشرين ساعة، وكذلك الموقع الإلكتروني العربي، متضمناً البث الإلكتروني للراديو والتلفزيون». ويوضح أن حياد «بي بي سي» وغيرها، لا يعني أن ننقل الأخبار من اليمين واليسار بلا تمييز، ويضيف: «لا يليق أن تقف في وسط غزة وتقول إن الفلسطينيين يقولون إن الإسرائيليين ضربوا موقعاً ما، إنما الواجب أن تقول هل ضُرب هذا الموقع أم لا. الحياد لا يعني أن تنقل وجهات نظر الطرفين، وإنما أن تحقق كصحافي بالموضوع. وفي النهاية، لا يمكنك إرضاء كل الناس، والصحافي الجيد لا يقدم حلولاً وسطى لإرضاء دولة ما أو شخص». ويميز بلال بين القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية وقناة «بي بي سي»، ويقول: «أتت هذه الفضائيات لسد فراغ موجود في العالم العربي. اما «بي بي سي»، فهي خدمة عامة، ولم تأت للدفاع ولا للترويج للسياسات البريطانية». ويوضح أنه على رغم أنه يُنفق على القناة من منحة بريطانية، وتشرف عليها وزارة الخارجية البريطانية، إلا أن هناك سداً منيعاً بين الخارجية والموقف السياسي البريطاني من جهة وبين التحرير من جهة أخرى، ولا يوجد أي تدخل من أي نوع في سياسة «بي بي سي العربية». ويشير إلى أن كلمة السر الأهم في القنوات الفضائية يجب ان تكون المصداقية والوضوح والصراحة لجذب المشاهد العربي، الذي لم يعد حبيس القنوات المحلية التي تبث من الداخل فقط». يبقى ان المشهد التلفزيوني في مصر يشهد مزيداً من التغيرات، علماً ان الصورة لا تزال ضبابية، في ظل الارتباك واللغط بين الفوضى والحرية.