هناك في مهرجان «كان» في كل دورة عدد من لجان التحكيم، حيث من المعروف ان لكل تظاهرة لجنة من هذا النوع تحدد أسماء الأفلام والسينمائيين الفائزين في التظاهرات. وحتى وإن كان قد قيل دائماً ان مجرد اختيار أعضاء اللجنة، وفي شكل أكثر تحديداً: رئيس اللجنة، يمكن النتائج أن تكون معروفة سلفاً، الى حدّ ما، ذلك ان الحساسية السينمائية للرئيس، كما لأعضاء اللجنة، تلعب دوراً رئيساً في الاختيار. وعادة ما تكون للرئيس كلمة الحسم. طبعاً لا يمكن أحداً هنا أن يزعم ان ما نقول هو الممارسة المثالية وأن تدخلات، من كل نوع ومن أي نوع، لا تجري لترجيح اختيار على آخر... غير ان هذا هو السائد، قليلاً أو كثيراً. وإذا نظرنا الى الأمور من هذه «الزاوية البريئة»، بالنسبة الى دورة هذا العام، فسنجدنا ازاء اختيارات، للجان التحكيم وأعضائها، تبدو طليعية الى حد كبير، بل ضامنة للثقة... ثقة ان التدخلات «الخارجية» ستكون عند الحد الأدنى. ذلك أن السينمائيين الأربعة الذين يتولى كل منهم رئاسة إحدى اللجان الرئيسة: لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الطويلة، لجنة نظرة ما، لجنة الأفلام القصيرة و «سينيفونداسيون» وأخيراً لجنة تحكيم الكاميرا الذهبية، هم من أبرز سينمائيي اليوم، بمن فيهم طبعاً روبرت دي نيرو، رئيس اللجنة الأساسية الذي ستشرئب له الأنظار بصورة خاصة في حفل الختام حيث توزع الجوائز الكبرى (السعفة الذهبية وأخواتها). ولعل في إمكاننا أن نقول في صدد دي نيرو انه يحضر هنا بصفتيه الأساسيتين: كونه من أكبر النجوم الممثلين الأحياء في السينما الأميركية، والعالمية بالتالي، من ناحية، وكونه مخرجاً قدّم، من ناحية ثانية، عدداً من الأفلام التي لفتت الأنظار حتى وإن عجزت عن وضعه في مصاف كبار المخرجين السينمائيين. دي نيرو، الذي أسس في نيويورك غداة «أيلول 2001» واحداً من المهرجانات السينمائية الطليعية (رداً، بخاصة، على العمليات الإرهابية) معروف بذوقه السينمائي، هو الذي تعود علاقته بمهرجان «كان» الى عام 1976، على الأقل، حين شارك فيلم «سائق التاكسي» من بطولته وإخراج مارتن سكورسيزي، في مسابقة المهرجان ونال السعفة الذهبية. ومن هنا، إذ يعود دي نيرو بعد كل هذه السنوات رئيساً للجنة التحكيم في المهرجان الذي شهد أول انطلاقة عالمية له، من الواضح ان هذا سيعني له الكثير كما للمهرجان. امير كوستوريتسا، المخرج «اليوغوسلافي» (كما يصر هو على أن يُسمى!)، والذي يرأس هذه المرة لجنة تحكيم ثاني تظاهرات المهرجان «نظرة ما...»، يرتبط بمهرجان «كان» أكثر، كثيراً، من ارتباط دي نيرو به، فهو، وعلى مدى تاريخه السينمائي، الطويل زمنياً، إنما المقل نسبياً من الناحية الإنتاجية، عرض في «كان» معظم أفلامه الرئيسة، كما انه نال من السعف الذهبية والجوائز الأخرى، ما يجعله صاحب رقم قياسي في هذا المجال. نقول هذا ونفكر، على الأقل، بسعفتيه ل «بابا في رحلة عمل» (1985) و «اندر غراوند» (1995)... ناهيك بأن كوستوريتسا، سبق له أن كان محكماً في دورة سابقة ل «كان»، هو الذي من المعروف أنه لا يفوّت دورة من المهرجان حتى وإن لم يكن لديه فيلم معروض. ولعل من الطريف أن نذكر هنا انه إذا كان روبرت دي نيرو ممثلاً، يجرب حظه في الإخراج بين الحين والآخر، فإن كوستوريتسا مخرج، يجب أن يجرب حظه في التمثيل بين الحين والآخر. ولئن كان البعض يميل الى ان يقول لدي نيرو بعد كل فيلم يخرجه: من الأفضل لك أن تكون ملكاً في التمثيل من أن تكون مجرد سيداً مهذباً في الإخراج، فإن كثراً يبدون بدورهم مستعدين لأن يقولوا لكوستوريتسا، بعد كل فيلم يمثل فيه: من الأفضل لك أن تكون ملكاً في الإخراج من ان تكون مجرد سيد مهذب في التمثيل. مهما يكن، لا بد من الإشارة هنا الى ان حضور كوستوريتسا في التمثيل، أكثر كثافة وبروزاً من حضور دي نيرو في الإخراج. من ناحيته يعتبر الفرنسي - العامل في السينما الأميركية في شكل شبه متواصل - ميشال غودري، ممثلاً ومخرجاً في الوقت نفسه. وهذا المخرج الذي يقترب الآن من الخمسين من عمره (ولد عام 1964 في فرساي) يعتبر حالياً من الشباب الطليعي في السينما الأميركية والأوروبية. وهو، بهذه الصفة - لا لكونه ممثلاً - اختير هذا العام ليرأس لجنة تحكيم مسابقة الأفلام القصيرة، هو الذي، أصلاً، كان فرض حضوره كمخرج عبر الكثير من الأفلام القصيرة و «كليبات الأغاني» (رولنغ ستون، بيورك، كميكال براذرز، كايلي مينوغ...)، ثم توالت أفلامه، ذات النزعة السوريالية والشديدة الحداثة من ناحية الأسلوب، والغرابة من ناحية المواضيع، بدءاً من «الطبيعة البشرية» الذي أطلقه في «كان» 2001، مؤكداً «نزعته» الأميركية مروراً بأعمال مثل «شمس مشرقة أبدية على عقل لا يركز» من بطولة جيم كاري، وعن سيناريو لتشارلز كوفمان (أوسكارات 2005) و «علم الأحلام» و «عبئ من فضلك» وأخيراً «ذي غرين هورنت». في رفقة هذا الثلاثي الصاخب من المحكمين، قد يبدو رئيس لجنة تحكيم «الكاميرا الذهبية» بونغ جون هو، مجهولاً للجمهور العريض. ولكن ليس، بالطبع، لأهل السينما ولا - بالتأكيد - لأهل مهرجان «كان». ذلك ان هذا المخرج الكوري الجنوبي الشاب (42 سنة)، بدأ حضوره السينمائي يشع منذ نحو عقد من السنين، ولا سيما في المهرجانات، ومنها مهرجان «كان» حيث كانت انطلاقته الأولى الكبرى مع فيلم «الضيف»، بعد فيلم «ذكريات جريمة» الذي كان أول عمل له يعرف على نطاق واسع. وهو إذ برز لاحقاً كواحد من ثلاثة مخرجين حققوا ثلاثية «طوكيو» (الى جانب الفرنسيين ميشال غودري وليو كاراس - 2008)، فإنه وصل الى الذروة - حتى الآن - بفضل فيلمه الأشهر «أم»، الذي إذ عرض عام 2009 في تظاهرة «نظرة ما» في «كان» وحقق من الإقبال الجماهيري والتقريظ النقدي ما أهّل بونغ ليعتبر واحداً من أكبر المخرجين الطليعيين في سينما اليوم، ودفعه في اتجاه مشروعه الذي يعمل عليه اليوم، انطلاقاً من إبداع في الشرائط المصورة للفرنسيين جاك لوب وجان - مارك روشيت، بعنوان «لاترانسبيرس نيج». ومن المتوقع أن يكون هذا المشروع الجديد، والذي سيكون الأضخم إنتاجياً في مسار هذا المخرج، حتى اليوم، حديث أهل «كان» لهذه الدورة.