الأرقام أولاً: ثمانون في المئة من مجمل الأفلام التي عرضت في المسابقة الرسمية وعلى هامشها، كما في تظاهرة «نظرة ما»، في دورة هذا العام المنتهية من مهرجان «كان» السينمائي، هي إما من إنتاج التلفزيون في شكل مباشر، أو منتجة بدعم أساسي منه. قد لا يعني هذا أن الأفلام حققت بلغة تلفزيونية، لكنه يعني بالتأكيد أن عروضها على الشاشة الصغيرة، كانت في بال مبدعيها... ومعظمهم يعرف أن عدداً كبيراً من هذه الأفلام قد تكون العروض التلفزيونية، أو من طريق وسائل الاتصال غير السينمائية، فرحها الوحيد للوصول الى متفرجين. ومن هنا كان محقاً أوليفييه السايس، صاحب «فيلم» «كارلوس» ذي الخمس ساعات وأكثر، حين أبدى حزنه ودهشته كون فيلمه التلفزيوني هذا لم يقبل في المسابقة الرسمية في «كان» هذا العام، بل اكتفي بعرضه على هامش المسابقة. والحال أن صرخة السايس تبدو منطقية في وقت يمكن أن نقول عنه ان الحدود بين السينما والتلفزيون تزول نهائياً، ليس فقط في حيّز الإنتاج، بل حتى في حيّز الإبداع نفسه. وإذا كانت دورة هذا العام من «كان» قد عجزت عن إثارة السجالات الحادة، السياسية وغير السياسية، التي كانت وعدت بها، فإنها في المقابل تمكنت من تفجير السجالات الكبرى حول العلاقة بين السينما والتلفزيون، انطلاقاً طبعاً من فيلم «كارلوس» ولكن وصولاً الى المسألة التقنية نفسها، الى السؤال الأساس: ما الذي يمكن أن يحدد اليوم العلاقة بين ما يصنع لهذا وما يصنع لتلك؟ فمثلاً، الذين شاهدوا «كارلوس» على الشاشة السينمائية العريضة، خرجوا يقولون بقوة ان أهم ما في هذا الفيلم هو ان مخرجه حققه بلغة سينمائية واضحة. وفي المقابل لوحظ أن القسم الأكبر من الأفلام المشاركة في المسابقة، تحديداً، حقق بتقشف اللغة التلفزيونية... ما يعني ان السجال الذي كان لا يزال تقنياً الى سنوات قليلة صار اليوم سجالاً جمالياً. ولعل هذا أبرز جديد دورة «كان» لهذا العام. غير ان الجديد/ القديم، الذي ثار هذا العام أيضاً، انما دار من حول قدرة مهرجان «كان» على استقطاب أفلام تبرر عالميته ومكانته الأولى في العالم. وينطلق السجال حول هذا الأمر من كون هذه الدورة ستدخل تاريخ «كان» بوصفها واحدة من أكثر دوراته تقشفاً وافتقاراً الى الأفلام الكبيرة... ولا سيما في المسابقة الرسمية. إذ طوال أيام المهرجان لم يكن ثمة أي فيلم يفاجئ أو يوقظ الدورة من سبات كادت تغط فيه. حيث، عدا عن خمسة أو ستة أفلام لافتة حقاً في كل التظاهرات مجتمعة، لم يخرج ما عرض من اطار العادية، وحتى تظاهرة «أسبوعي المخرجين» التي كانت شهيرة بأنها محط اكتشاف المواهب الجديدة، لم تكشف هذه المرة عن أي جديد... ها... ها... ها غير أن هذا كله يبقى هيناً، أمام الختام. فمثلاً ان تعطى جائزة «نظرة ما» الى الفيلم الكوري «ها... ها... ها» وفي وجهه تحفة دي أوليفييرا «حالة انجيلكا الغربية» أو تحفة غودار «فيلم اشتراكية» أو فيلم جيا جانكي «أود لو كنت أعرف»، أمر يثير الاستغراب حقاً، ويدفع الى التساؤل حول إوالية اختيار لجان التحكيم، وإوالية عمل هذه اللجان... حتى وان كان معروفاً في عالم المهرجانات انك حين تعين لجنة التحكيم تكون سلفاً قد حددت نوعية الأسماء الفائزة في الختام، أو أحياناً أسماء الأفلام. ومع هذا كلّه، لم يكن أحد يتصور في حفل الختام أن تكون لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، من «الجرأة» - بحسب تعبير عدد كبير من الصحف والمجلات الفرنسية وغير الفرنسية التي علقت بسرعة على النتائج - بحيث تعطي السعفة الذهبية الى فيلم كان يمكن أن يعطى أية جائزة أخرى، غير تلك التي تتوج فيلماً على اعتبار أنه «أهم ما عرض في المهرجان» هذا العام، وبالتالي، على انه أبرز فيلم سينمائي حقق في العالم خلال عام كامل واستحق أن يؤخذ في المسابقة الرسمية! والحال أنه، إذا كانت للفيلم الفائز، وهو «العم بونمي الذي يتذكر حيواته الماضية» من مزايا كثيرة، على صعيد الموضوع واللغة السينمائية وتصويره أجوائه - وكل هذا قابل للنقاش حقاً - فإن أياً من هذه المزايا لا يؤهله ل «السعفة». وإذا كان كثر قد عزوا فوزه الى غرابة أطوار رئيس لجنة التحكيم، المخرج تيم بورتون، فإن كثراً أيضاً، رأوا في الفوز نتيجة لأجواء مناسبة للفيلم أوجدها النقد الفرنسي، مع العلم بأن فرنسا مشاركة في انتاج الفيلم، الذي هو في شكل عام من انتاج أوروبي على رغم تايلانديته، اضافة الى تأثير الأحداث السياسية التايلاندية في الموقف من الفيلم، خصوصاً أن مخرجه آبيشاتيونغ فيراسيتاكول، حاول في كل الأحاديث الصحافية التي أدلى بها، أن يربط فيلمه بتلك الأحداث... وهو أمر ليس واضحاً في الفيلم الذي اتسم بتلك الشاعرية الغرائبية التي تستهوي العقل الغربي الاستشراقي، ما يعني ان الفيلم انما صنع أصلاً من أجل هذا العقل. وهو أمر تلقفه فوراً بعض النقاد الفرنسيين الذين كتبوا مناصرين للفيلم في وقت كان النقد العالمي لا يعتبره جديراً بأية جائزة كبرى. الأفلام الجديرة كانت، أصلاً، قليلة العدد، أربعة أو خمسة. وكان الفوز من نصيب بعضها، فيما نسي بعضها الآخر تماماً. ولعل الظلم الأكبر كان ذاك الذي تعرض له في النهاية الفيلم الذي كان ثمة إجماع منذ عرض على أنه الأكبر حظاً: «عام آخر» لمايك لي... الذي كان، الى «عن البشر والآلهة» للفرنسي كزافييه بونوا، و «بيوتيفيل» للمكسيكي اليخاندرو غونزاليس اينارينو، وربما أيضاً «نسخة طبق الأصل» لعباس كياروستامي، الفيلم الذي نال القسط الأكبر من الإعجاب واعتبر، حقاً، عملاً كبيراً يعرض في «كان» هذا العام. نعرف الآن أن الأفلام الثلاثة الأخيرة نالت حظها من الفوز، وربما بقدر من العدل كبير... أما نسيان «عام آخر» فإنه بالتأكيد، بدا بالنسبة الى النقاد والجمهور والمهتمين، خطيئة كبيرة «ستحاسب لجنة التحكيم عليها ذات يوم» بحسب تعبير مجلة «تيليراما» وصحيفة «لوموند». هنا أيضاً ثار السؤال من حول اختيار لجنة التحكيم ورئيسها. والمعروف أنه إذا كان الاختيار يتم ديموقراطياً، فإن رئيس اللجنة (تيم بورتون هنا) يظل القطب المؤثر، خصوصاً ان وجد الى جانبه محكّمون لا يقلون عنه طليعية ورغبة في الاستفزاز مثل المخرج والرسام الإسباني فكتور إريس... ومن المؤكد ان بورتون الذي لم يكن - على عادة رؤساء لجان التحكيم - راغباً في التماشي مع اجماع نقدي رجح فوز «عام آخر» - الذي تتناقض واقعيته القوية، مع نزعة بورتون نفسه، الخيالية الغرائبية الماورائية - توجه بقوة صوب ترجيح «العم بونمي...» إذ أحس أن ثمة ميلاً فرنسياً الى اعطائه السعفة، كي يظهر في نهاية الأمر نوع من التوازن مع هيمنة فرنسا على الجوائز كما على المهرجان وعروضه (العدد الأكبر من أفلام المسابقة الرسمية من انتاج فرنسي، أو تشارك فرنسا في انتاجها)... أسئلة للشهور المقبلة طبعاً هذا كله سيصبح قريباً حديث ذكريات... والسجالات من حول جدارة «العم بونمي...» أو عدم جدارته بالفوز ستنسى قريباً، كما سينسى الفيلم نفسه. ليس لعدم جودته، فهو - بعد كل شيء - فيلم له مزاياه... لكنها مزايا طليعية، تليق بنوادي السينما والعروض الخاصة والتلفزيونية المتأخرة ليلاً، بل لعدم جدواه. فهو فيلم لن يكون قادراً، على أن يشكل لحظة في تاريخ السينما، أو أن يجتذب جمهوراً عريضاً لمشاهدته ولو من باب الفضول. وكان الدليل الأسطع على هذا، عرض الفيلم غداة اعلان فوزه، في «كان» نفسها، حيث إذ تَدافع المئات لمشاهدته، جوبه بالصراخ والصفير، وغادر القاعة معظم الحضور قبل انتهاء عرضه... كما قلنا، هذا كله سينسى قريباً. أما ما سيبقى فهو السجال الآخر عن حدود السينما وحدود علاقتها مع التلفزيون... وأما ما سيبقى من أسئلة مهرجانية، فإنما هو السؤال الذي بدا - أخيراً! - يشغل بال مسؤولي «كان»: هذا المهرجان الى أين؟ ففي هذا العام، وصلت أزمة مهرجان «كان» الى ذروتها. ولا سيما انطلاقاً من غياب الشركات الأميركية الكبرى عنه، ومن تدهور المبادلات التجارية على هامش المهرجان، واضطرار مجلاته اليومية المتخصصة الى التوقف عن الصدور في الأيام الأخيرة لافتقارها الى الإعلانات. حتى سائقو التاكسي وأصحاب المطاعم أحسوا بالأزمة هذه السنة وراحوا يمطروننا بأسئلة حول مستقبل المهرجان... ولا شك في أن أجوبة كثيرة ستكون مطلوبة خلال الاثني عشر شهراً المقبلة... أي الفترة التي سيكون فيها «عام آخر» قد عرض وحقق من النجاح ما يثير غيظ تيم بورتون ورفاقه، فيما يعجز «العم بونمي...» عن العثور على صالات تعرضه، فإن عثر، فسيعجز عن العثور على جمهور يملأها... فإن عثر، فسيعجز عن إبقاء الجمهور في الصالة حتى نهاية العرض...!