ملك الأردن يغادر جدة    سوق الأسهم السعودية يستعيد عافيته بدعم من قطاعات البنوك والطاقة والاتصالات    أمير حائل يطّلع على مبادرة توطين الوظائف وتطوير قطاع الصناعات الغذائية    رئيس مجلس الشورى يعقد جلسة مباحثات رسمية مع نظيره القطري    ولي العهد⁩ يستقبل ملك الأردن    أمير تبوك يهنئ نادي نيوم بمناسبة صعوده لدوري روشن للمحترفين    أمير جازان يرعى ملتقى المواطنة الواعية    وكيل محافظة بيش يكرم القادة و المتطوعين بجمعية البر ببيش    "وزير الصحة" متوسط العمر المتوقع في الحدود الشمالية يصل إلى 81 سنة    بخبرة وكفاءة.. أطباء دله نمار ينقذون حياة سيدة خمسينية بعد توقف مفاجئ للقلب    القبض على مواطنين لترويجهما مادتي الإمفيتامين والميثامفيتامين المخدرتين و 1.4 كيلوجرام من الحشيش المخدر    رئيس جامعة الإمام عبدالرحمن يفتتح أعمال ومعرض المؤتمر ال17 لمستجدات الأطفال    وكيل محافظة بيش يدشن أسبوع البيئة    حظر جماعة الإخوان في الأردن    الدكتور الربيعة يلتقي عددًا من المسؤولين في القطاع الصحي التونسي    فعاليات ثقافية بمكتبة الملك عبدالعزيز لليوم العالمي للكتاب    السعودية تدين بأشد العبارات الهجوم الإرهابي الذي وقع في ( با هالجام) في جامو وكشمير والذي أسفر عن وفاة وإصابة العشرات    Saudi Signage & Labelling Expo يعود إلى الرياض لدعم الابتكار في سوق اللافتات في المملكة العربية السعودية البالغة قيمته 492 مليون دولار    الداخلية: 50,000 ريال غرامة بحق كل مستقدم يتأخر عن الإبلاغ عن مغادرة من استقدمهم في الوقت المحدد لانتهاء تأشيرة الدخول    أمير منطقة جازان: فرص سياحية واعدة تنتظر المستثمرين في جزر فرسان    بيان مشترك في ختام زيارة رئيس وزراء جمهورية الهند للسعودية    ترند اليوم لا تتذكره غدا في هيئة الصحفيين بمكة    رئيس الوزراء الهندي في المملكة    الاحتلال يُدمر آليات الإنقاذ استهدافًا للأمل في النجاة.. مقترح جديد لوقف الحرب في غزة وسط تصعيد متواصل    عودة رائد الفضاء دون بيتيت بعد 220 يوما    مصر ولبنان يطالبان بتطبيق القرار 1701 دون انتقائية    استمرار تحمل الدولة رسم تأشيرة عمالة مشروع «الهدي».. مجلس الوزراء: إنشاء غرفة عمليات لاستقبال ومعالجة بلاغات الاحتيال المالي    السجن والغرامة لمستخدمي ملصقات الوجه على WhatsApp    وفاة إبراهيم علوان رئيس نادي الاتحاد الأسبق    105 تراخيص جديدة .. ارتفاع الاستثمارات والوظائف الصناعية في السعودية    إطلاق أكثر من 30 كائنًا فطريًا في محمية الملك خالد الملكية    فريق عمل مشروع توثيق تاريخ كرة القدم السعودية ينهي أعماله    سفراء الوطن يحصدون الجوائز العالمية    مؤتمر مكة للدراسات الإسلامية.. فكر يبني وانسانية تخدم    إعلاميون ل"البلاد": خبرة الهلال سلاحه الأول في نخبة آسيا    اقترب من مزاحمة هدافي روشن.. بنزيما.. رقم قياسي تاريخي مع الاتحاد    دول آسيوية تدرس مضاعفة مشتريات الطاقة الأميركية لتعويض اختلال الميزان التجاري    «التواصل الحضاري» يدرّب 89 طالبًا من 23 جامعة    جامعة الملك سعود تحتفي باليوم العالمي للغة الصينية    معرّفات ظلامية    أمير المدينة المنورة يطلع على جهود "الأمر بالمعروف"    أمانة مكة تعلن ضوابط الشهادات الصحية للحج    أمير الرياض يستقبل السفير الإندونيسي    مؤتمر القصيم لطب الطوارئ يختتم أعماله    دليل الرعاية الصحية المنزلية.. خارطة طريق لكفاءة الخدمات    7.7 مليار ريال أثر مالي لكفاءة الإنفاق بهيئة تطوير المنطقة الشرقية    7 مليارات ريال تمويل القروض الزراعية    ما الأقوى: الشريعة أم القانون    نائب أمير الرياض يُشرف حفل السفارة الأمريكية بمناسبة ذكرى اليوم الوطني    "جامعة جدة" تحتفي بأبطال المبارزة في بطولة المملكة للمبارزة SFC    بنزيما يحظى بإشادة عالمية بعد فوز الاتحاد على الاتفاق    "هيئة الأدب" تدشن جناح مدينة الرياض في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب    موجبات الولادة القيصرية وعلاقتها بالحكم الروماني    أمير الشرقية يرعى حفل تخريج الدفعة ال 46 من طلاب جامعة الإمام عبد الرحمن    رئيس المالديف يستقبل البدير    أمير تبوك يستقبل القنصل العام لجمهورية أفغانستان لدى المملكة    نائب وزير الخارجية يستقبل مساعد وزير الخارجية مدير عام إدارة الشرق الأوسط وأفريقيا بوزارة خارجية اليابان    الرئيس العام للهيئات يلتقي منسوبي فرع المدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدارات يكتبها أدونيس - اللحظة السورية، مرّةً ثانية
نشر في الحياة يوم 05 - 05 - 2011


1
سقوط الخلافة العثمانية، حلول الانتداب محلّها، مجيء الاستقلال: ثلاث مراحل تاريخية حاسمة سبقت ولادة سورية الحديثة. وقد وُلِدَت لا بوصفها جسماً مكتملاً، بل بوصفها جرحاً. من هذا الجرح، كانت تنزف دماء تمتزج فيها الذكريات التاريخية الأليمة بالوقائع الفاجعة. ولم يندمل هذا الجرح حتى الآن. مُوِّه، غُطِّيَ. بُنيَ فوق التمويه والتّغطية سقفٌ كثيفٌ من الأوهام الأيديولوجية المتنوّعة. وكانت الفترة التي ساد فيها حزبُ البعث العربي الاشتراكيّ، ذروةَ هذا التمويه وهذه التغطية.
الآن، ينفتح الجرحُ السوريّ من جميع الجهات. ينفتح في جسمٍ «مقسَّم في جسومٍ كثيرةٍ» وفقاً لعبارة عروة بن الوَرْد. وهو لذلك ينفتح كأنه فضاء من الدماء، تبدو فيه سورية على حقيقتها التاريخية: قوميّات، إتنيّات، أقلّيات، مذاهب دينية، طوائف، قبائل، عشائر. كما كانت ماضياً. قَدامَتُها ابتلعت حداثتَها. ذلك أنّ الذين تعاقبوا على حكمها أرادوا ثرواتها أكثر مما أرادوا بناءها. هكذا أسّسوا نظاماً ولم يؤسّسوا مجتمعاً.
ومنذ الانقلاب العسكري الأول، عام 1949، انتهت الحياة البرلمانية، وصودرت الحياة السياسية. وكانت الطامّة الكبرى في بداية الستينات حيث وُضِعَت سورية كلُّها، بتاريخها كلّه، وبتعدّدها كلّه في إناء واحد، من أجل تذويبها وصهرها في سائلٍ أيديولوجيّ واحد: ضدّ الحقيقة وضدّ الواقع، وضدّ الطبيعة.
2
منذ عام 1963، وصل الحزب الواحد، إلى السلطة بانقلاب عسكريّ، أي بنوع من الاغتصاب، محتكراً حقّ تمثيل الشعب المتعدّد المتنوّع. استبعد تبعاً لذلك، جميع الأطراف الأخرى إلّا إذا قبلت الالتحاق به، والعمل تحت رايته.
وقد جُعِل هذا الاحتكار قاعدةً وطنيّة نُصّ عليها في دستور البلاد، (المادّة 8). وهو عملٌ بدا في الممارسة، كأنه «دينٌ» آخر، مغلَق، وعنفيّ. وكأنه لم يكن ضدّ السوريين، حقوقاً وحرّيّات، بقدر ما كان ضدّ الحياة ذاتها في المطلق، والإنسان ذاته في المُطلَق. وكان إلى ذلك، تأسيساً دستوريّاً للامتيازات والانتهاكات والاحتكارات، وتأسيساً للعنف الذي يحمي هذا كلّه ويسوّغه.
الحزب الواحد استنساخ مزدوج للعنف الروحيّ - الفكريّ التقليديّ، وللعنف المادّيّ الذي يستتبعه. وهو في ذلك تجسيمٌ لسلطة الواحد. إنه إعادة إنتاج للخضوع والتبعيّة للحاكم الأوحد.
والواقع أنه كان إلغاءً للتعدّد وللتنوّع اللذَيْن يميزان المجتمع السوريّ. وكان أيضاً إلغاءً لهويّة هذا المجتمع، من حيث إنّه يضع مقاليد الفكر والحياة في يد الحزب الواحد والسلطة الواحديّة، وإلغاء لثقافته من حيث إنه يُخضعها إلى معايير هذا الحزب وسياساته. وهو، قبل كلّ شيء ضدّ التاريخ. ففي البدء، تاريخيّاً، كانت الكثرة وكان التنوّع والتعدّد. وليس الواحد في هذا الإطار، إلّا تجريداً محضاً. أو ليس إلّا وهماً سرعان ما تفضحه التجربة.
هكذا ينبغي الخروج من السياق السلطوي الأحادي. فهو سياقٌ يحوّل المجتمع إلى آلة: نعم نعم، لا لا. ولا بدّ تبعاً لذلك، من المبادرة فوراً إلى إلغاء المادّة الثامنة في الدستور السوريّ، والتي هي أساس الوباء في الحياة السوريّة الراهنة: سياسيّاً واقتصاديّاً، ثقافيّاً واجتماعيّاً، إنسانيّاً وحضاريّاً. ولا بدّ من أن يرافق هذا الإلغاء قانون يسمح بتأسيس الأحزاب. فالتعدّد والسّجال وطرح الآراء والنظرات المتنوّعة أساس الحياة السياسية السويّة. ولا بدّ من أن ترافقه كذلك، دعوة لانتخاب تشريعيّ حرّ، يؤسّس لعهد جديد في سورية، تتنافس فيه القوى الاجتماعيّة السياسية، كلها من دون استثناء، في مناخ ديموقراطيّ وعلى نحو إنسانيّ وخلاّق، ويتمّ فيه تداول السلطة سلميّاً ووفقاً للمعايير القانونيّة.
لقد أثبتت التجربة، منذ 1963، أنّ سيطرة الحزب الواحد على الدولة والمجتمع، فشلت اقتصاديّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً. وكان فشلها كارثيّاً. إنّ جوهر الاجتماع الإنسانيّ يقوم على الاختلاف والتنوّع والتعدّد. وفرض الواحديّة عليه إنما هو قضاء على الإنسان وإبداعه، وقضاء على المجتمع.
والحاجة الماسّة الآن، والملحّة هي إلى الاجتماع والتشاور والعمل مع أهل الفكر والرأي ومنظمات حقوق الإنسان ومع القوى السياسيّة المدنية والعلمانية. وذلك لوضع خطوط أساسية والعمل للخروج من الأحادية القائمة، مع الفصل الكامل بين الدين من جهة، والسياسة والدولة من جهة ثانية، من دون المساس بحرية التديّن والمعتقد، أيّاً كان. خصوصاً أنّ استخدام الدين سياسيّاً، إنما هو عنفٌ آخر. ولعلّه، في إطار الدولة وثقافاتها وسياساتها، العنف الأكثر نزوعاً إلى الإقصاء والإلغاء. إيران مثلٌ ساطع على ذلك.
ولا يكتمل هذا العمل إلا بعزل القضاء والتربية والجيش وقوى الأمن، عن السياسة، على نحو كامل وشامل وجذريّ، وإعطاء النساء حقوقهنّ المدنية الكاملة، في مساواة تامّة مع الرجال. هكذا لا تعود السلطة الحاكمة طرفاً سياسيّاً أو حزباً وإنما تصبح حَكَماً. وهو ما يجب أن يبدأ الآن، وأن يُعلَن الآن.
هذه القضايا كلها جديرة بأن يدعو إلى دراستها، ومناقشتها، رئيس البلاد، في حوار وطنيّ عامّ، لوضع الأسس التي تكفل الانتقال بسورية إلى حياة ديموقراطية، تعدديّة، تقوم على القانون، وعلى القداسة الكاملة لحريّات الإنسان وحقوقه.
3
الأساس الذي يجب توكيده، في المجتمعات العربية كلّها، وبخاصّة في الحالة السوريّة، هو الحيلولة بمختلف الوسائل، من دون استخدام الدين سلاحاً في الصراع السياسيّ. فهو عدا أنه استخدام للعنف، كما أشرت، يستنفر الذاكرة التاريخية التي تقطر دماً: ذاكرة الصراع - مذهبيّاً، وثقافيّاً، وسياسيّاً. ويستنفر العصبيات القبليّة والعشائريّة والإتنيّة. وهكذا يخرج هذا الصراع من الإطار المدنيّ - الثقافيّ الوطنيّ. وقد يحوّل النصوص الدينيّة ذاتها، كما تعلّمنا التجربة التاريخية إلى مجرد أدوات عنفيّة. إنّ سياسةً تقاد باسم الدين في عربةٍ يجرّها حصانان: النعيم والجحيم، إنما هي بالضرورة، سياسة عنفيّة، وإقصائيّة.
وعلينا أن نعترف بأنّ الأنظمة أوصلت الطغيان إلى درجة دفعت بمعارضيها جميعاً إلى الركوب في هذه العربة التي يقودها، أحياناً حصانان آخران: المال والقتل وبينهما الكامِخُ الأميركي - الإسرائيليّ.
4
كان منتَظَراً أن يحدث ما حدث في سورية، في شكل أو في آخر. أن يستيقظ النائم أو المُنَوَّم. أن يتحرك الناس في طلب الحرية، والكرامة البشرية، والقضاء على الظلم، وتوزيع الثروة بعدالة، وإلغاء الاعتقالات بسبب الرأي ... إلخ. ولا تهمّ هنا الأقلّية العدديّة. العددُ هنا رمز. والأقليّة في العدد هي هنا أكثرية في الرمز.
نعم، كان منتَظَراً أن يحدث ما حدث. وها هو الحاضر في سورية ليس في بعض أشكال انفجاراته إلّا استنساخاً بأدوات حديثة لبعض أحداث الماضي. طفلٌ يلعب أو يدرس يخترقه رمح السلطة. رأسٌ يفكّر يحتزّه السيف. أجسامٌ تُقطَع بالفؤوس، وتُطرَح على الدروب. هولٌ ينزل من أعلى، من السلطة، وهولٌ يصعد من أسفل، من الناس. المجتمع يتحرّك جحيميّاً. والنار الآكلة لا تشبع.
والأكثر عبثيّةً واستدعاء للسخرية هو ما يُقال حول تدخّل الأميركيين والأوروبيين. يحسبون العرب بلا ذاكرة ولا قدرة على الربط. أين تدخّلوا وخرجوا، أو حلّوا مشكلة؟ في فلسطين؟ في الصومال؟ في العراق؟ وها هي ليبيا في التجربة والثوار يدفعون الثمن وحدهم. لا أشكّ في أنّ السوريين يرفضون قطعيّاً أيّ تدخّل أجنبيّ في شؤونهم الداخليّة. فهم الأكثر وعياً والأكثر قدرةً على حلّها.
* نعم، كان مُنتَظَراً، بالنسبة إليّ، على الأقلّ، أن يحدث ما حدث.
ولا أعرف أن أبكي. لو أنني أعرف، لَكنتُ حوّلت عينيّ إلى ينبوعين من الدمع: جنوبيٍّ في درعا، وشماليٍّ في بانياس وجبلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.