في كتابها «أنفض عني الغبار... سيرة حياة كاتبة» (العين- القاهرة)، تعود الكاتبة ليلى العثمان إلى منابع الكتابة، بما فيها أسى الطفولة وسطوة الأب، والتسامح المبكر في الكويت مع الاختلاف، قبل أن يبرز تحدي التطرف بالكتابة حتى ولو كان ثمن ذلك السجن. تختتم العثمان كتابها (242 صفحة) بعبارة «ولم تنته الحياة بعد». أما الإهداء فهو كالتالي: إلى أولادي الستة وأحفادي، هذه حياة أمكم، وأتمنى أن تكون حياتكم أفضل». وفي الاستهلال؛ فقرة من رواية عبدالحميد بن هدوقة «غداً يوم آخر»: «إن قصة حياتي أعز من حياتي. إنها عزيزة عليّ إلى درجة أنني أود أن أضعها في يد كل عابر». بدأت ليلى العثمان النشر في الصحف منذ عام 1965 في القضايا الأدبية والاجتماعية، وصدرت مجموعتها القصصية الأولى بعنوان «امرأة في إناء» عام 1976. وصدرت روايتها الأولى «المرأة والقط» في عام 1985. تقدم نجمة إدريس للكتاب باعتباره؛ «إضافة مهمة إلى أدب السيرة الذاتية في منطقتنا، حيث ندرة هذا اللون من الكتابة، وإن وجدت فعلى استحياء وتردد؛ ولعلّ هذه البادرة تنفض الغبار عن القرائح المتمكنة وتؤسس لهذا الأدب الشائق». أما العثمان فرأت أنّ الأمر يظلّ في نطاق الكتابة التي هي «حرفة الشقاء والسعادة؛ سرير الحرير والشوك». وتضيف: «في كثير من الأحيان أحس أن الكتابة هي أمي وأبي اللذان لا بد أن أخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وهي أولادي والاستعمار الذي لا أناهضه ولا أقوم بثورة ضده، وهي الرجل الذي أحب، ومهما عذّبني أتوق إليه، وإن هجرَني بحثتُ عنه، وإن مللتُ منه طلّقته عناداً؛ ثم عدتُ إليه قبل أن تنتهي شهور العِدة». إنها تقدم في هذا العمل أيضاً سيرة للكتابة انطلاقاً من سؤال وجّهته إلى نفسها: «ما الذي أوقعني في شراك الكتابة؟». وهي تواصل هنا مسيرة بدأتها قبل خمسة عقود تقريباً. ويرتبط كتاب «أنفض عني الغبار» بكتابين آخرين في السيرة أيضاً هما: «بلا قيود... دعوني أتكلم» (1999)، و «المحاكمة... مقطع من سيرة الواقع» (2000). وبالطبع ينبغي أن ننتظر البقيّة بعدما اختتمت كتابها الجديد قائلةً: «لم تنته الحياة بعد». وبعدما كتبت: «اليوم وأنا أتأمل نفسي، بعد كل هذا العمر، أفتخر بأن معاناتي كامرأة وأم، لم تكن أقل من معاناتي ككاتبة، لقد تساوى عندي حب الإثنين، فأخلصت لكليهما، ونجحت في تحقيق ما حلمت به (كم أتمنى لو ظلّ أبي حيّاً ليفخر بي)»... في الفصل الأول وعنوانه «الصورة»، تتساءل ليلى العثمان: «لماذا بعد كل هذه السنوات أقرر أن أنفض غباري وأكتب؟ هل لأنني كبرتُ وأخشى أن يأتي الموتُ فجأة فأدفن في قبر مظلم يغطيه التراب؟ وتضيف: «لقد خزّنتُ واقعي، وأشعر الآن أنني مثقلة بسنوات عمرٍ التهمت الكتابةُ نصفه». وفي فصل عنوانه «رواية المحاكمة»؛ تتطرق العثمان إلى أنه في عام 1996؛ «قام أربعةٌ مِن الذين ينتمون إلى الجماعات السلفية برفع دعوى ضدي في المحكمة يتهمونني فيه بنشر كتبٍ تدعو إلى الرذيلة، وتحث على الفسق والفجور. استمرت المحاكمة أربع سنوات وحين صدر الحكم بسجني مدة شهرين مع الشغل والنفاذ، كنتُ حينها في بيروت. قال لي صوتٌ من داخلي: أكتبي. لا شيء غير الكتابة منقذ وشاف. وهكذا ولد كتاب «المحاكمة مقطع من سيرة الواقع»، الذي منعته الرقابة في الكويت، كما منعت الذي صدر لي قبله أثناء المحاكمة: رواية «العصعص»، والمجموعة القصصية «يحدث كل ليلة». وهي أهدت ذلك الكتاب إلى الأربعة الذين رفعوا ضدها الدعوى؛ «لأن تلك الدعوى ساهمت بدفعي إلى الكتابة». الأسى على ما آل إليه الحال، يبرز في موضع آخر من تلك السيرة، إذ تقول العثمان: «كنتُ محظوظة يوم بدأتُ النشر في الصحافة عام 1965، فقد كان مجتمعي آنذاك منفتحاً يتنفس هواء الحرية. مجتمع آمن بالمرأة وحقها في التعليم والعمل والتعبير عن ذاتها ومشاعرها بصوت صريح وجريء. لقد كتبتُ في فضاءات رحبة متحررة من كل قيد، ونشرتُ كلّ ما كتبتُه في الصحف اليومية والمجلات، وكان جريئاً، فلم يعترض أحدٌ حينها، ولم يكن للرقابة أي سلطة». تبدأ نجمة إدريس تقديمها كتاب العثمان بقولها: «لو تسنى لك دخول بيت ليلى العثمان في زيارة ما فسوف تطالعك صورة مكبرة لأبيها تكاد تقترب من الحجم الطبيعي، وهو مشتمل «بشته» وعقاله؛ جالس تلك الجلسة المطمئنة، مشع بوسامة ومهابة لا تنال منها السنوات. ولو تصادف أن دارَ تعليقٌ حول الصورة، فسوف تؤكد لك سيدةُ البيت أن لا أحد يجرؤ (من الأبناء أو الأنسباء) أن يزحزح الصورة من مكانها أو يستبدلها، سواء في بيتها هذا أو في أي مكان آخر تمتلكه. بقاء الصورة سر للعيش في المكان ولازمة من لوازمه المقدسة. ويبدو أن الصورة مجرد صورة، أما الرجل الرابض في بُعدها الأعمق كجبل مقدس مجرد طيف يشف عبر الزمن، وإنما بين الرجل وابنته حوارٌ لم ينته بعدُ وخيوطٌ من العتب لا تبلى. وحين تنطلق ليلى العثمان محاولة سرد سيرتها، بل سيرتهما معاً، تتكسر كآنية هشة. لكنها تظل تتمسح بأطراف «بشته» كطفلة مذعورة لا تزال تعاودها الكوابيس في غيبته الطويلة والمرهقة. كوابيس لم تقصها عليه قط حين كان يملأ الحياة طولاً وعرضاً، وحين كان– لظله المديد وكلمته العليا- لا يكاد يرى لها وجهاً أو يسمع لها صوتاً. لكنّ الطفلة تستيقظ الآن– ومتى نامت حتى تستيقظ- لتنظر في عينيه ملياً، وتدير معه عتاباً طويلاً ومريراً ومثقلاً بتعب العمر». في سيرتها تقارب ليلى العثمان الكثير من وجع الطفولة وأحزانها المتكتمة، وتستعيد وجوه الحرمان المدقع والتوهان وفقدان الأمن النفسي والمكاني. وعلى رغم ما لفقدان ظل الأم من أثر في تكوينها النفسي، ظلّ الكيان الأبوي (المتزعزع) يظل أبعد أثراً وأعمق جذوراً. لكنها تضع أسس معاناتها في سلة الأب، الرمز الأعظم للانتماء والاحتواء المفقودين، والراعي الذي غفل عن رعيته (ربما بلا قصد) أو اشتد في التنشئة أيّما شدة، فتحوّلت إلى قسوةٍ وسطوةٍ تبرّرها تقاليد المجتمع وأعرافه. وتضيف إدريس: «وعلى عادة الطامحين إلى قتل الأب لإيجاد مساحة لتحقيق الذات، تكرر ليلى العثمان هذه الأمنية في أكثر من موقع: «تمنيت أن يموت أبي، فأخرج حرة من بيته إلى أفق يسمح لأجنحتي بالطيران». وهكذا يظل الأب، ليس في سيرة ليلى العثمان فقط، وإنما في جل أدبها هو المحور، وهو الدائرة المفرغة التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد»، وفق ما لاحظت إدريس. هذا الكتاب- تضيف نجمة إدريس- هو أيضاً سيرة مدينة الكويت إبان أربعينات وخمسينات وستينات القرن العشرين. لا ترد المعلومات عن مدينة الكويت القديمة على سبيل الوصف والتقصي فقط، وإنما تتحوّل إلى لون من التوحد الشفيف بين الكاتبة ومدينتها يبلغ حد النوستالجيا العذبة المغموسة بخيالات هاربة وذكريات ثمينة ونادرة. في أجزاء تالية، تستعرض العثمان إنتاجها من القصص القصيرة والروايات، وتتحدث عن مسيرتها التي استطاعت من خلالها ردم هوة التعاسة والشعور بالنقص، وعن جَلَدها في تحقيق الاستمرارية والتطور وتحقيق الأحلام.