تصادف الذكرى المئوية لوفاة الموسيقي غوستاف مالر في 18 أيار (مايو) الجاري. ولد في كاليشتا - تشيكيا لعائلة يهودية انتقلت بعد ولادته إلى يهلافا. كانت طفولته تعسة قضاها في جو عائلي بائس انعكس عليه طوال حياته.بانت موهبته الموسيقية مبكراً، ودرس الموسيقى في مدينة يهلافا، ثم في براغ وتخرج في كونسرفاتوار فيينا بعد أن درس التأليف الموسيقي وقيادة الاوركسترا، وأخذ دروساً خصوصية عن الموسيقار النمسوي آنتون بروكنر 1824-1896. عمل في ليوبليانا عاصمة سلوفينيا اليوم، ثم موسماً واحداً في اولموتس في شرق تشيكيا وكلاهما من أعمال الامبراطورية النمسوية المجرية آنئذ، قبل أن ينتقل للعمل في مدينة كاسل في ساكسونيا في ألمانيا. وهناك بدأت شهرته، وترافق النجاح مع الفضائح، عندما رفضت الفرقة الضخمة التي رافقت الكورس المؤلف من 400 مغنٍ أن يقودها في حفل افتتاح مهرجان صيفي كبير بدعوى كيف يقطف يهودي ثمار عمل الالمان وجهدهم. فقام بتجميع موسيقيين من المدن المجاورة وفرقة موسيقى الجيش في المدينة وقدم المهرجان بنجاح كبير. عمل بعدها في المسرح الألماني في براغ ومن ثم قاد اوبرا مدينة لايبتسيغ، وهي مدينة ذات تقاليد موسيقية عريقة، إذ عمل فيها باخ لسنوات طويلة، وكذلك مندلسون الذي جعل من اوركستراها جيفاندهاوس أشهر فرقة في اوروبا، وفيها ولد فاغنر. في 1888 انتقل للعمل في إدارة دار الاوبرا الملكية في بودابست، وكانت قد افتتحت في عام 1884 وعُدّ مسرحها الأحدث تقنية في اوروبا آنئذ. وكان أول عمل قدمه في بودابست هو ذهب الراين من رباعية فاغنر خاتم النيبلونغ. لكن ما إن بدأت الامسية حتى شبّ حريق في المسرح تعاون على إطفائه المغنون ورجال الإطفاء في امتحان ناجح لأجهزة المسرح، بعدها أكمل مالر تقديم العرض الذي حاز نجاحاً فائقاً، تبعه في اليوم التالي بدراما الفالكيري من الرباعية نفسها وبنجاح. من نجاحاته تقديمه اوبرا دون جيوفاني لموتسارت في اوبرا بودابست، وصادف وجود يوهانس برامز في بودابست وقد دعي إلى الحفل من جانب مضيفيه فذهب على مضض. إلا أنه ايقظ سريعاً من إغفاءته أثناء الافتتاحية كما يقال، وفي ختام الاوبرا صعد برامز إلى المسرح ليهنئ مالر على أفضل أداء لدون جيوفاني سمعه في حياته. يعود الفضل إليه في اطلاق اوبرا بيترو ماسكاني «فروسية الفلاحين» على طريق الشهرة العالمية بعد تقديمه الرائع لها في بودابست. إلا أنه تصادم مع الكونت زيتشي الذي وضع في إدارة الاوبرا، وكان يعد قومياً متعصباً حتى من جانب أصدقائه، أما هو فكان يعتبر نفسه موسيقياً لامعاً، وعازفاً بارعاً على البيانو على رغم فقدانه إحدى ذراعيه، مما أثار انزعاج مالر. كما رفض مالر أداء المغنين أدوارهم باللغة التي يجيدونها وليس باللغات الأصلية، ووصف ذلك بتبلبل اللغات، بخاصة عندما تعلق الأمر بدرامات فاغنر. هذا الأمر دعا بعض الصحافيين إلى اتهامه بمعاداة اللغة المجرية. وساءت العلاقة إلى حد تهديد المدير باستحصال أمر من وزير الداخلية بتعليق مالر من وظيفته على رغم العقد الموقّع لمدة عشر سنوات. وفي الختام عرض عليه مكافأة مغرية إن قدم مالر استقالته ففعل ذلك بعد أن كان قد حصل على عقد عمل جديد في هامبورغ الألمانية، فترك بودابست التي أمضى فيها أربع سنوات. في مقر عمله الجديد أثبت مالر قدراته الفنية من جديد، وقدّم دراما فاغنر «تريستان وإيزولده» بنجاح هائل، وألحقها بدراما «زيجفريد»، مما حدا بقائد فرقة هامبورغ الفيلهارمونية، عازف البيانو هانس فون بيلوف الى تقديم إكليل من الغار لمالر اعترافاً بقدراته، وهو الذي لم يتنازل حتى للحديث معه أثناء عمله في مدينة كاسل. قدم مالر أوبرا «اونجين» في أوروبا بحضور مؤلفها تشايكوفسكي الذي انبهر كثيراً للعرض الرائع. بلغ عدد العروض التي قدمها خلال السنوات الست التي قضاها في الإدارة الفنية لمسرح هامبورغ 740 عرضاً، لذلك ليس من الغريب أن يشتكي من قلة الوقت الكافي للانصراف إلى التأليف الموسيقي. في 1897 انتقل إلى فيينا ليشغل منصب المدير الفني لاوبرا البلاط (اوبرا الدولة الآن). لم يكن الحصول على هذه الوظيفة سهلاً، إذ عارض ذلك كثر، بينهم ابنة فرانس ليست، كوزيما التي تزوجت من فاغنر بعد أن هجرت زوجها الأول هانس فون بيلوف (وهذا بالذات ما جعله يعلن تأييده لبرامز خصم فاغنر في صراعهما الموسيقي، بعد أن كان أشد المتحمسين له). في المقابل دعمه أصدقاء برامز، على الخصوص عدد من النبلاء المجريين الذين تمتعوا بنفوذ في البلاط الامبراطوري، وحتى انه أعلن اعتناقه المسيحية كي يحصل على هذا المنصب. خلال السنوات العشر التي قضاها في هذا المنصب، قدم مالر 648 حفلة، وعشرات من الأعمال الموسيقية والاوبرات الجديدة. لكنه في المقابل رفض طلب الامبراطور فرانس يوزف تقديم اوبرا ألفها خصمه القديم الموسيقي الكونت زيتشي. تزوج من آلما شندلر خلال عمله في فيينا عام 1902 وكان يكبرها ب19 عاماً، وتعرف خلال تلك الفترة على نخبة من الكتّاب الفنانين مثل الموسيقيين آرنولد شونبرغ وألبان برغ، والمسرحي ماكس راينهارت (الذي أسس مهرجان سالتسبورغ) والكاتب شتفان تسفايغ والرسام غوستاف كليمت، وكان رومان رولان وتوماس مان من بين المتحمسين له. غير أن سنوات فيينا الأخيرة كانت صعبة بسبب الصراعات ومؤامرات خصومه ضده، وبسبب وفاة ابنته ماريا في 1907 بمرض الدفتريا والحمى القرمزية. باشر مالر عمله الجديد في اوبرا متروبوليتان نيويورك في مطلع 1908، وبقي يعمل في أميركا مع جولات صيفية في أوروبا حتى وفاته في فيينا. إلا أنه فضّل الانتقال لقيادة فرقة نيويورك الفيلهارمونية بعدما شعر بمنافسة المايسترو الايطالي آرتورو توسكانيني له، إذ تعاقد المتروبوليتان معه ليكون مساعداً لمالر. لم تكن تلك السنوات سهلة عليه بسبب مرضه وبسبب خيانة زوجته له، إذ أقامت علاقة غرامية مع المعماري فالتر غروبيوس، صاحب مدرسة باوهاوس في العمارة والذي تزوجته بعد وفاة مالر. اشتهر مالر بقيادته الموسيقية البارعة وحصل على إعجاب معاصريه بمصاحبة الكثير من الصراعات المتواصلة مع الموسيقيين والمؤدين وإدارات المؤسسات التي عمل فيها وحتى مع النقاد والصحافة. وهو مؤلف موسيقي بارع أيضاً تخصص بالتأليف السيمفوني وبتأليف الأغاني على النمط الذي أحياه شوبرت، وبحكم عمله لم يمل إلى موسيقى الحجرة، إذ لم يؤلف سوى بضعة أعمال في شبابه، بينها رباعية للبيانو وسوناتا بيانو وكمان. له 10 سيمفونيات (وكان قد ألف عمله «اغنية الأرض» بموقع السيمفونية التاسعة من دون أن يستعمل هذا العنوان بسبب عادة الموسيقيين تجنب ذلك إعجاباً بسيمفونية بيتهوفن التاسعة والأخيرة، قبل أن يؤلف سيمفونيته التاسعة والعاشرة). كما ألف السلاسل الغنائية مثل «هورن الطفل العجيب» وأغاني الأطفال الموتى (من شعر ريكرت). يعد من آخر الموسيقيين الكبار في سلسلة تمتد من بيتهوفن عبر شوبرت وفاغنر وبرامز، وأسلوبه يصنف ضمن الموسيقى الرومنطيقية مع عمق كبير وتأثيرات فلسفية وروحانية، وقد اعجب بكانط وغوته وشوبنهاور. والربط بين الموسيقى السيمفونية والغناء برز عنده في شكل واضح، لكنه وعلى رغم تقديمه أروع العروض الاوبرالية لم يؤلف الاوبرا قط. موسيقاه تتميز بالتناقض الديناميكي الشديد، فهو يستعمل الصوت الخافت كالهمس وينتقل إلى أشد الأداء رعداً. وهذا ما يدعو محبيه إلى القول: الاستماع إلى تسجيلات إعماله يجب أن يكون برفع الصوت قدر الإمكان. وتتميز كذلك باستعماله الالحان الشعبية، من ضمنها الألحان والايقاعات المميزة لليهود اليديش التي تشتهر الآن بتسمية موسيقى كلزمر، وضمّنها في موسيقاه. في هذا السياق نلمس توظيفه التناقض بين المقاطع التي تستند إلى الموسيقى الشعبية ببساطتها وحلاوتها وإيقاعاتها الحية، مع المقاطع العميقة الموغلة في الجدية والثقل. مال على العموم إلى استعمال اوركسترا ضخمة في مؤلفاته، وكان يوظف الشعر في بعض أعماله السيمفونية. على سبيل المثال أنجز السيمفونية الثامنة المعروفة بالألفية في 1906 لكنه لم يتمكن من تقديمها إلا عام 1910. ويعود السبب إلى صعوبة تهيئة مستلزمات هذا العمل، بالدرجة الاولى العدد الكبير من العازفين والمغنين، الذي يتجاوز الألف، إذ بلغ في العرض الأول في ميونخ 171 عازفاً و858 مغنياً في الكورس، من دون ذكر القاعة التي يمكنها استيعاب هذا الجيش من الموسيقيين. وهذا أحد اسباب ندرة تقديمها اليوم كذلك، ويعتبر تقديمها حدثاً مثيراً في الحياة الموسيقية لأي بلد. على سبيل المثال، المجر التي لا تزال تتذكر بفخر السنوات الأربع التي قضاها مالر مديراً موسيقياً للأوبرا في بودابست لم تقدم السيمفونية للمرة الاولى إلا في 1983 بقيادة آرباد يو، كما قدمت الصيف قبل الماضي في مدينة بيتش المجرية احتفالاً بألفية أسقفية المدينة وضمن التهيئة لبرنامج العاصمة الثقافية الاوروبية 2010. صادفت الذكرى 150 لولادة مالر في 7 تموز (يوليو) الماضي، والذكرى المئوية لوفاته الآن في 18 أيار الجاري، ولهذا بدأ الاحتفال بهذا المؤلف وقائد الاوركسترا اللامع منذ العام الماضي في النمسا وألمانيا وتشيكيا وسلوفينيا والولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها. وتضمن البرنامج علاوة على تقديم اعماله تنظيم المؤتمرات العلمية وورشات العمل ومسابقات قيادة الاوركسترا والمعارض عنه. وتساهم جمعية مالر الدولية في تنسيق هذا البرنامج الضخم. والجمعية تأسست في 1955 وكان رئيسها الفخري تلميذه قائد الاوركسترا المبدع برونو فالتر، وبعضوية أرملته آلما مالر (توفيت في 1964).