فرانز ليست شخصية استثنائية في تاريخ الموسيقى الاوروبية، شخصية مثيرة للارتباك (على الاقل بالنسبة إلي)، فهو يحتل مكانة خاصة جداً، وربما عاد سبب ذلك الى تفرده وشخصيته المؤثرة. فهو عازف بيانو من الدرجة الاولى، وقد يعدّه الباحثون أفضل عازف بيانو على الاطلاق. وهو ثانياً مؤلف موسيقي بارع، أعماله ذات نكهة مميزة. وهناك كتاباته عن الموسيقى، وهي مرآة لأحوال الموسيقى والموسيقيين في عصره، على رغم صعوبة التثبت من بعض كتاباته، إذ قامت عشيقته الأميرة كارولين فون فتغنشتاين بنشر بعضها مع إضافات كتبتها هي ومن دون علمه أو موافقته. ورابعاً بسبب علاقاته الواسعة بالفنانين والموسيقيين المعاصرين له وشخصيته الكاريزمية وتأثيره فيهم. حضور ليست كان حدثاً مهماً في أي مدينة يزورها أو يقيم فيها. فهو يجتذب الفنانين والموسيقيين كالمغناطيس، ويتحلقون حوله بفعل الكاريزما التي ميزته. كان دائم الترحال والسفر، جال في كل أوروبا يقدم الحفلات ويقود الفرق الموسيقية ويعطي تلاميذه الذين قدموا من كل مكان الدروس مجاناً. أصبح قسيساً في منتصف العمر وأخذ يؤلف المزيد من الأعمال الدينية. كان مواطناً أوروبياً حقيقياً، لكنه مع كل ذلك الترحال لم يفقد اعتزازه الكبير بجنسيته المجرية، الجنسية التي لم يستبدلها بأي جنسية اخرى على رغم إقامته الطويلة في ألمانيا أو فرنسا أو إيطاليا، وعلى رغم معرفته المحدودة باللغة المجرية. وذلك كان مترابطاً مع تبلور او تعاظم تأثير الفكر القومي الذي رافق ظهور الدول القومية الأوروبية وبالتزامن مع أخذ البورجوازية زمام المبادرة السياسية والانتقال من الإقطاع الى الرأسمالية. وبالطبع انعكس هذا الحال على الموسيقى كذلك، فظهر التيار «القومي» في الموسيقى، وكان فاغنر صهر ليست بين أبرز ممثليه، ومعروف عن فاغنر تشدده وحتى تطرفه ومعاداته اليهود، بل حتى عنصريته في آخر فترات حياته بتأثير أفكار الفيلسوف الفرنسي آرتور دو غوبينو. هذا كان أحد الأسباب وراء إعلاء هتلر والرايخ الثالث من شأن فاغنر، وتقليلهم من شأن موسيقيين كبار مثل العبقري مندلسون بسبب اصوله اليهودية، أو حتى منعهم من تقديم أعمال غوستاف مالر، على رغم تنصّرهما. في المقابل، تمنع اسرائيل تقديم أعمال فاغنر من منطلقات معاكسة. ولعل الجميع يتذكر العاصفة التي قامت في اسرائيل بوجه المايسترو الاسرائيلي دانيل بارنبويم والدعوات لسحب جائزة اسرائيل منه عندما قدم أعمال فاغنر. وبارنبويم غني عن التعريف، فهو مؤسس فرقة ديوان شرق – غرب التي أسسها بالتعاون مع الراحل ادوارد سعيد، وكان بارنبويم يصر على تقديم حفلات موسيقية في رام الله حتى في أشد أيام الحصار الاسرائيلي على الضفة. سيمفونيات ولا شك في أن ارتباط ليست بوطنه المجر هو ارتباط شديد، فقد واكب كل الأحداث وتبرع بسخاء لبناء نظام تعليم الموسيقى في المجر، ورأس أكاديمية الموسيقى التي تسمى اليوم باسمه في بودابست من دون أن يتقاضى مرتّباً. قدم ليست في شبابه 8 حفلات موسيقية في فيينا وأرسل كل ريعها لمساعدة منكوبي فيضان 1838، الفيضان الذي دمّر نحو 10 آلاف بيت، ولا تزال جدران أبنية في بودابست تحمل لوحاته التذكارية. ألّف ليست عدداً كبيراً من المؤلفات، في البداية للبيانو، ولاحقاً للاوركسترا، وأعاد كتابة الكثير من أعمال الموسيقيين الآخرين إما للبيانو (مثل سيمفونيات بيتهوفن) أو وزع أعمالهم على البيانو للاوركسترا. تتميز أعماله للبيانو بتقنيتها العالية وصعوبتها (قام العازف الاسترالي لسلي هوارد بتسجيل كل أعماله للبيانو على 95 قرصاً مدمجاً، وأنجز هذا المشروع الكبير خلال 15 سنة). تتميز أعماله بجرأتها الصوتية والبراعة بالتوزيع. اشتهر بما يعرف بالقصيدة السيمفونية، وهو شكل من أشكال ما يعرف بالموسيقى المبرمجة أو البرنامجية. كان يمتلك حاسة قوية في معرفة العباقرة في الموسيقى، إذ دعم الكثير من الموسيقيين مثل فاغنر وبرليوز، ودرّس عازفي بيانو أصبحوا من أشهر العازفين لاحقاً مثل هانس فون بيلوف الذي تزوج ابنة ليست، كوزيما (تركته لاحقاً لتتزوج من فاغنر). وبالطبع يمكننا أن نتفهم موقف فون بيلوف بعد ذلك، عندما انتقل إلى صفوف مؤيدي الموسيقار يوهانس برامز خصم فاغنر وغريمه (في الموسيقى طبعاً)، بعد أن كان من أشد المتحمسين ل «حزب» فاغنر. ولم يقتصر تأثيره في معاصريه وطلابه، بل تعداهم إلى من جاء بعده من عازفي البيانو والمؤلفين، سواء عبر اسلوب العزف على البيانو الذي تميز بما يسمى الأيادي الثلاث (تقديم الموسيقى بثلاثة خطوط لحنية في آن)، أو عبر استعماله الهارموني في شكل تجديدي تلقفه اللاحقون مثل رافيل أو ديبوسي، وبدرجة أكبر بيلا بارتوك. في هذا الجانب، يمكن القول وبلا أي مبالغة ان ليست سبق عصره، إذ إن الكثير من أعماله يحمل بذور عالم الأصوات المميز لموسيقى القرن العشرين. وقررت منظمة اليونسكو اعتبار العام الجاري سنة دولية للموسيقار المجري فرانس ليست بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لولادته، لأنه كان من أشهر الشخصيات الموسيقية والفنية في القرن التاسع عشر وأكثرها تأثيراً. وقد وصلت احتفالات الذكرى المئوية الثانية ذروتها السبت الماضي، الذي صادف 22 تشرين الأول (أكتوبر)، يوم ميلاد الموسيقار في 1811. أخذتنا قنوات الراديو الأوروبية إلى العواصم والمدن التي قدمت فيها أعمال ليست بنقل حي مباشر لكثير من الامسيات. وقدمت الفرق الموسيقية أحد أعمال ليست الضخمة، هو أوراتوريو المسيح (1873) في مدن العالم من سيول- كوريا الجنوبية، إلى فيلنيوس، وبراغ وبايرويت وباريس وفيينا وبودابست، وفي عدد من المدن المجرية كذلك. ومن بين الفعاليات في السنة الاحتفالية بهذا الموسيقار الفذ، نظمت المجر مسابقة فرانز ليست العالمية للبيانو التي انتهت في بودابست يوم 19 أيلول (أيلول) الفائت، بمشاركة 53 متسابقاً من 14 بلداً، من ضمنهم 23 متسابقاً من الدولة المضيفة. وكان العالم الموسيقي تشارلز روزن قد دُعي لترؤس اللجنة التحكيمية، ألا أنه اعتذر بسبب مرضه، فاختير البروفيسور بيتر ناج استاذ جامعة فرانز ليست للموسيقى في بودابست لرئاسة اللجنة المتألفة من سبعة أعضاء، من ألمانيا عازف البيانو رولف-ديتر آرنس عميد معهد فرانز ليست العالي في فايمار، وعازف البيانو ويليام فونغ من بريطانيا وإيك-تشو مون من كوريا الجنوبية، والفنانة الجورجية الأصل اليسو فيرشالادزه، إضافة إلى ممثلين اثنين عن المجر هما كلارا هامبورغر نائبة رئيس لجنة العلوم الموسيقية وعازف البيانو كاروي موتشاري مستشار جمعية فرانس ليست المجرية. فاز بالمرتبة الاولى البريطاني الكسندر اولمان (20 سنة)، وبالثانية الروسي إيليا كوندراتييف (24 سنة)، وبالجائزة الثالثة المجري يانوش بالاج (عمره 24 سنة كذلك). وبالتأكيد سنسمع عن هؤلاء الشباب في المستقبل، فالفوز في مسابقة عالمية رفيعة مثل هذه هو جواز مرور مضمون نحو الشهرة.