من قال إن ملاعب كرة القدم معزولة عن العلوم والتكنولوجيا وتطوّرها؟ ربما حزنت قلوب كثيرة عندما ألغي الهدف الثاني لفريق «الجزيرة» الإماراتي، بعد تدخل غرفة المراقبة بالفيديو. وذكّر ذلك بأنّ الملاعب الحديثة تعجّ بالتقنيات، لا تبدأ بطائرات التصوير المؤتمتة «درون» ولا تتوقف عند الأشكال التي لا حصر لها للتصوير والبث (وضمنها البث رقميّاً من الجمهور عبر ال «سوشال ميديا»)، ولا تنتهي عند إدخال رقاقة إلكترونيّة إلى كرة القدم كي تمكن الحكّام من معرفة تجاوز الكرة خط المرمى. والأرجح أنّ تلك الأمور كلّها تحدّث عن وضع ملاعب كرة القدم بوصفها متلقياً للعلوم والتكنولوجيا. ماذا عن المقلب الآخر من المشهد ذاته؟ ماذا عن كرة القدم بوصفها مصدراً للتطوّر علميّاً وتقنيّاً؟ لا غرابة في السؤال، بل أجابت عنه إيجابيّاً عقول علميّة استلهمت لعبة كرة القدم لصنع نوع متطوّر من الأشرعة تبلغ من القوّة أنها تستطيع أن تجري بالسفن التجاريّة الضخمة، بما فيها تلك المخصّصة للشحن البحري. وإذ عُرف نجم كرة القدم البريطاني ديفيد بيكهام بتسديده ركلات حرّة «منحرفة ومقوّسة»، تجتاز جدراناً من لاعبي الدفاع وتتجنّب حرّاس المرمى وأجسادهم المتمدّدة في الهواء سعياً لصد تلك الركلات. واستُعمِلَت معادلات الرياضيات والفيزياء لرسم صورة علميّة عن تلك التسديدات الماهرة. وتمّ تطبيقها في ابتكار نوع جديد من الأشرعة، تستطيع دفع السفن عبر المحيطات، بكفاءة عالية. وتختلف الأشرعة المتطوّرة عن التقليديّة بأنها أولاً تتكوّن من المعادن، بالأحرى من لدائن معدنيّة بمواصفات علميّة معيّنة. وبدل أن تنشر في الهواء، تكون مثبتّة كأنها زعانف سمكة ضخمة، على عامود دوّار ضخم، يتصل بمولّد للكهرباء، فتعطي طاقة ضخمة للسير بالسفن. «تأثير ماغنوس» وفي مطلع 2018، تستقبل البحار ناقلة نفط مملوكة لمجموعة النقل الدنماركيّة «ميرسك» MAERSk، وسفينة ركّاب مملوكة لشركة «فايكينغ لاين» بأشرعة مبتكرة على ظهريهما. ومن شأن تلك الأشرعة المركّبة على عامود يوازي ارتفاعه مبنى من عشرة طوابق تقريباً، أن تخفض استهلاك الوقود بنسبة تزيد على تسعين في المائة. ومع انخفاض استهلاك سفنها الوقود النفطي إلى أقل من 10 في المئة، تدّخر شركات النقل مئات آلاف الدولار، ويستفيد الغلاف الجوي للأرض بأن ينخفض التلوّث الناجم عن انبعاثات الكربون التي تنفث السفن حاضراً آلاف الأطنان من سخامها في كلّ رحلة بحرية طويلة. وتعتمد الأشرعة الدوّارة على مبدأ ديناميكا هوائية يُعرف باسم «تأثير ماغنوس» Magnus Effect. وفي خمسينات القرن التاسع عشر، لاحظ عالم الفيزياء الألماني هنريتش غوستاف ماغنوس أنّه عندما يتنقّل في الجوّ جسم دوّار، على غرار الكرة في تسديدات بيكهام، تواجهه قوّة أفقيّة لها مواصفات محدّدة. ويرجع ذلك إلى أنّه عندما لا يكون ذلك الجسم في وضعية الدوران، يغيّر الهواء مساره ويرفعه، مولّداً ذيلاً دوّاراً يمتد خلفه، كأنه ذيل مذنّب. وفي المقابل، يؤدي دوران الكرة إلى جرف عض الهواء في طريقها، ما يؤثّر في مسار الذيل، فيحرفه في زاوية محدّدة خلف الكرة، ويكون أقرب إلى جانب الكرة الذي يدور باتجاه الهواء القادم إليها. وإذ يفيد القانون الثاني للميكانيكا أنّ كلّ حركة يجب أن يقابلها ردّ فعل موازٍ ومعاكس، يندفع الذيل الذي حرفت الكرة مساره، إلى الاتجاه المعاكس، فينتقل إلى جانب الكرة الذي يدور بعكس اتجاه الهواء الذي تسير فيه الكرة، ما يجعلها تلتوي باندفاع جانبي. وفي مطلع القرن العشرين، اقترح علماء استعمال «تأثير ماغنوس» لدفع السفن في رحلاتها. واستبدل المهندس الألماني أنطوان فلتنر 420 متراً مربعاً من قماش الأشرعة على متن المركب الشراعي «بوكاو»، بأشرعة دوّارة دفعت به نحو الأمام. وعام 1926، عبر مركب «بوكاو» المحيط الأطلسي. أثر المال ونشطاء البيئة في المقابل، لم يعثر فلتنر على مستثمرين يهتمّون بذلك النوع من السفن الشراعيّة، بالنظر إلى التدنّي الكبير لأسعار الوقود آنذاك، إضافة إلى الغياب التام للقوانين التي تحدّ من انبعاثات السفن. ومع تبدّل تلك الأحوال حاضراً، بدأت الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة تهب لمصلحة المحركات الشراعية، مع ملاحظة أن السفن تنقل ما يزيد على 90 في المئة من البضائع المتبادلة عالميّاً. وفي 2015 عبر مرفأ «شنغهاي» الصيني 36 مليون مستوعب للبضائع. وتأتي تلك الحركة التجارية كلّها مقابل ثمن بيئي باهظ. إذ إنّ السفن بمعظمها تحرق زيت الوقود الثقيل، وتُنتج ثاني أكسيد الكربون الذي يسبّب الاحتباس الحراري، إلى جانب الدخان الكثيف والسخام ومكوّنات الكبريت التي تساهم في تكوّن الأمطار الحمضيّة. ولفت توماس رسكي، رئيس شركة «نورسباور أوي ليمتد» OY Ltd Norsepower المختصة بمعدات الطاقة والهندسة النظيفة (مقرّها هلسنكي) إلى ذلك، قائلاً: «يتعرّض قطاع الشحن لضغوط متزايدة للحدّ من حجم الانبعاثات». وأخيراً، طوّرت «نورسباور» شراعاً دوّاراً يستند إلى تصميم فلتنر، لكنّها أضافت إليه تحديثات عدّة. إذ استعملت مواد حديثة على غرار ألياف الكربون والزجاج ما خفض وزن الشراع بثلاثة أضعاف، وهو أمر يخفض باستهلاك الكهرباء، وبالتالي يزيد من كفاءة استخدام الطاقة في دفع السفينة. في ذلك الصدد، قال رسكي: «يمكن لأكبر شراع دوّار لدينا أن يوفّر دفعاً إلى الأمام بقوّة تصل إلى 3 ميغاواط/ ساعة في قوّة المحرك الرئيسي، مع استهلاك أقل من 90 كيلوواط/ ساعة من الكهرباء»! ويرتبط تصميم «نورسباور» أيضاً ببرنامج يعمل على تكييف حركة الشراع الدوّار كي تصل إلى بضع مئات من الدورات في الدقيقة، بهدف تعزيز الاندفاع نحو الأمام. ووصف رسكي ذلك قائلاً: «إنّه نظام آلي بالكامل وسهل الاستعمال تماماً».