لم يكشف الفرنسي جيروم بيرات في برنامجه التلفزيوني «المافيا الفرنسية» لمشاهديه كيف تمكن من إقناع بعض قادة العصابات المنظمة في مدن الأطراف، وغالبية سكانها من المهاجرين، المشاركة في البرنامج والحديث بحرية عن أساليب عملهم في سرقة البنوك وتهريب المخدرات وسواهما من الجرائم الخطرة، وفوق هذا السماح لمصوريه بمصاحبتهم في عمليات حية لدرجة بدا الأمر لغرابته كما لو انهم يشاركون في تصوير فيلم سينمائي وليس توثيق عمليات كانت تجري في الواقع وعلى الأراضي الفرنسية. ركز الوثائقي التلفزيوني جهده، هذه المرة، على النتائج أكثر من الأسباب. فأسباب لجوء، بعض شباب مناطق الأطراف الفقيرة المحيطة بعواصم ومدن أوروبية كبيرة، إلى عالم الجريمة تناولتها سابقاً، برامج وأفلام سينمائية وتلفزيونية، بالتحليل والبحث، وأحالت الكثير من دوافعها إلى عوامل اقتصادية واجتماعية، وطبعاً سياسية وفي مقدمها العزل السكاني، وقلة فرص الحصول على أعمال جيدة والممارسات العنصرية البغيضة والتي تدفع بعض الشباب إلى أعمال انتقامية، وتجلياتها في فرنسا كانت واضحة في الاحتجاجات العنيفة التي شهدتها مناطق أطراف العاصمة باريس وغيرها خلال فترة ليست ببعيدة. في «المافيا الفرنسية» جرى التركيز على الفعل المعاش بشكل أساس، لهذا عايش فريق العمل هؤلاء الأشخاص لمدة عام كامل، صوروا خلاله عمليات تهريب مخدرات وسرقة سيارات وبيع أسلحة، قام بها أشخاص من عالم الجريمة السفلي، ثلاثة منهم شكلوا عماد البرنامج، قدموا أنفسهم فيه بأسماء مستعارة وأخفوا وجوههم بأقنعة واشترطوا على فريق البرنامج تَغيير نبرة أصواتهم أثناء التسجيل حتى لا تتعرف عليهم الشرطة من خلاله، فيما آخرون مثل رضوان فايد، قبل الظهور مشكوف الهوية لكونه ترك عالم الجريمة واختار الحياة السوية بدلاً منها. الوثائقي كشف عن العلاقات المتداخلة بين أنواع الجرائم المختلفة، ف «الثعلب»- اسم حركي- مختص في سرقة السيارات الفخمة والسريعة لأن حاجة مهربي المخدرات إليها كبيرة، فهم بحاجة إلى سيارات من نوع خاص يصعب على الشرطة اللحاق بها، ومهمته تأمينها لهم مقابل مبالغ كبيرة. وبالمقابل يوفر «بي أس جي» للساطين على سيارات نقل أموال البنوك، الأسلحة الأوتوماتيكية، التي تصله من طريق مهربين من يوغسلافيا السابقة. عمليات متداخلة كما يصفها سباستيان موراس مسؤول قسم المخدرات في شرطة باريس: «مجرمو مناطق أطراف باريس شكلوا وحدة عمل سيطروا بموجبها على أكثر من 90 في المئة من عمليات تهريب المخدرات في البلاد بأسرها. فهم يحصلون على سيارات سريعة يصعب إيقافها على الطرق السريعة كما انهم يملكون أسلحة ويجيدون التعامل مع المواد المتفجرة ولا يتورعون عن إطلاق الرصاص في الشوارع». ويصطحب المسؤول فريق العمل ليريهم السيارات المصادرة من المجرمين وكميات كبيرة من المخدرات في أحد أقسام الشرطة والتي تقَدر قيمتها بملايين اليوروات. أما كيف يصل هؤلاء إلى عالم الجريمة فلكل واحد منهم قصة، وقصة رضوان فايد فيها الكثير من البعد السينمائي، ليس مزاحاً بل حقيقة شرحها بالتفصيل حول تأثير سينما المغامرات الأميركية على عقول المراهقين وكيف تأثر هو شخصياً بها: «لقد قمنا بعملية هجوم مسلح على عربة نقل أموال كان فيها حوالى 8 ملايين يورو، حجزناها في طريق ضيق وأنزلنا منها الشرطة المكلفين بحمايتها وأشعلنا النار فيها ثم أخذنا الأموال وهربنا، تماماً كما حدث في فيلم مايكل مان «Heat»». وبالصور التوضيحية مع مشاهد منه، عرض البرنامج العلاقة المتداخلة بين الفيلم وبين الشباب الذين تعلموا منه أشياء كما وضح رضوان. «في شباط (فبراير) من عام 1996 ذهبنا مجموعة من الشباب إلى السينما لمشاهدة الفيلم وبعد الخروج منه فكرنا في القيام بعملية مشابهة. حللنا الفيلم لقطة لقطة وطبقناها خلال عملية السطو، لدرجة وضعنا فيها على وجوهنا أقنعة لاعبي الهوكي التي استخدمها اللصوص في الفيلم. أصبحت الأفلام بالنسبة لنا «كنزاً معلوماتياً» وبالنسبة لي صار المخرج مايكل مان قدوة». وهو الآخر صار قدوة لأبناء منطقة كريل التي تبعد 60 كيلو متراً عن باريس. فالكثير من مراهقيها سمعوا باسمه وبسرقاته الجريئة، وبعضهم عبر للبرنامج صراحة عن رغبته في أن يصبح ذات يوم مشهوراً مثله. من المنطقة ذاتها التي يقطنها حوالى 35 ألف مواطن جلهم من المهاجرين، يعيشون في شقق سكنية، تابعة للبلدية بنيت في أوئل الستينات من القرن العشرين، ونسبة البطالة فيها تتجاوز ال 40 في المئة، جاء «كريم». ومثله مثل غيره من مراهقي كريل كان يرى عملية بيع المخدرات تجرى علانية أمام عينيه وفي مدخل عمارته السكنية يومياً. في سن مراهقته بدأ بائعاً صغيراً للمخدرات ثم تدرج في الصعود حتى وصل إلى مراكز قيادية يعمل تحت أمرته كثير من الناس، ويقول عن تجربته في «المافيا الفرنسية»: «بدأت ببيع كمية قليلة ثم أصبحت نصف تاجر جملة أبيع قرابة 100 كيلو من المخدرات، أربح منها حوالى 30 ألف يورو، والباقي يذهب إلى المهربين الكبار. وفي عملي أستعين بمراهقين يراقبون لي الطرق كما يتعاون معي بعض الجنود مقابل المال». وعن الدوافع قال كريم مبرراً: «أريد تأمين مستقبل جيد لأطفالي، لا أنفق المال على نفسي، أعيش حياة بسيطة وأفكر في فتح مشروع يدر عليّ ربحاً ويضمن مدخولاً جيداً لعائلتي، وبعدها سأترك هذا العمل». وماذا تخافه؟ قال: «أخاف المستقبل ومن رصاصة طائشة تقتلني!».