هناك مبرّر آخر لنشر التشفير يتعلّق بمفهوم المواطَنة في القرن 21، يتعلّق بدروس مستفادة من تفجّر فضيحة تجسّس «وكالة الأمن القومي» على العالم. وفي وثائق كشفها الخبير المعلوماتي إدوارد سنودن في 2013، تبيّن أنّ الوكالة تعمل بتآزر وثيق يدعمه القانون الأميركي، مع كبريات شركات المعلوماتيّة والاتصالات في الولاياتالمتحدة. وفي عام 2015، طلبت وكالة «آف بي آي» من شركة «آبل» شيفرة أحد هواتف «آي فون» استخدمها إرهابي في تنفيذ مقتلة «سان برناردينو». ورفضت «آبل». ولجأت «آف بي آي» إلى القضاء لإرغامها على البوح بالشيفرة العتيدة. وقبل أن يصدر قرار المحكمة، أعلنت «آف بي آي» أنها فكّت شيفرة ذلك الهاتف بنفسها، ولم تعد بحاجة إلى تعاون «آبل» معها. وحرّك النزاع أسئلة متنوّعة، لكنه ذكّر أيضاً بوجود ضوء صغير لكنه مهم، على الأقل بالنسبة للجمهور العام الذي يصعب على أفراده أن يكونوا على مستوى التمرّس التقني الذي تملكه مؤسّسات الدول أو خبير المعلوماتية سنودن! وقبل الخوض في تفاصيل ذلك الضوء، يجدر التذكير بأن امتلاك نظام لتشفير المعلومات الفرديّة لم يعد مسألة رفاهية ولا حتى هواية تقنيّة، بل بات مسألة ملحّة. وطريّ في الذاكرة أيضاً أن الرئيس الأميركي باراك أوباما، في التفاتة غير مألوفة لمسألة من ذلك النوع، طالب الجمهور العام بألا يعتبر مسألة التشفير موضوعاً تقنيّاً صرفاً ولا هامشيّاً، بل أنه «يجب على الجميع التدرّب على التشفير»، وفق كلمات أوباما التي لم يكن زمانها بعيداً من اللحظات المتوترة من تفجّر فضيحة التجسّس الإلكتروني الشامل ل «وكالة الأمن القومي» الأميركيّة. كي لا تكون محاكمة على النوايا التمع ذلك الضوء الخافت من شركة «آبل»، تحديداً عندما أطلقت هاتفها «آي فون 6». وقد رافقت انطلاقة ذلك الهاتف ضجّة كبرى، لكن قلّة اهتمت بحضور مسألة تشفير المعلومات في نظام تشغيل «آي فون 6». وآنذاك، بدا واضحاً أنّ «آبل» التقطت فعليّاً الخيط المستجد في الاتصالات المعاصرة، الذي يمثّله التشفير. ربما يصح أيضاً القول إن الشركة لم تنطلق من اهتمامها بحماية الجمهور، بقدر اهتمامها بأرباحها، خصوصاً أن حصّتها في الهواتف الذكيّة باتت تتآكل باستمرار في ظل احتدام المنافسة مع هواتف مُشابهة قدّمتها شركات ك «سامسونغ» («غلاكسي») و«آتش تي سي» («ديزاير») و«نوكيا» («إكسبيرا») و«سوني» («نوت») و«كيندل» («فاير») وغيرها. في المقابل، يبدو ذلك أقرب إلى محاكمة على النوايا. أليس بديهيّاً أن تهتم الشركات بأرباحها؟ هل النقاش يتعلّق بالتقنية وعلاقتها مع الناس، أم بمحاكمة ضمائر من يصنع أدوات التقنيّة؟ إذاً، الأرجح أنها كانت بادرة ذكاء من «آبل» أن تلتفت إلى اهتمام الجمهور بحماية المعلومات التي يضعها الأفراد على هواتفهم الذكيّة، عبر إدماج نظام قوي للتشفير ضمن نظام تشغيل هواتف «آي فون 6»، وهو يحمل اسم «آي أو أس 8» iOS8. ويشمل التشفير المعلومات التي تخزّن على ذلك الهاتف مباشرة، بمعنى أنها لا تشمل المعلومات الموجودة على الإنترنت، كتلك المتراكمة على شبكات التواصل الاجتماعي بأنواعها. وللمرّة الأولى، بات مستطاعاً حماية المعلومات في الخليوي بأنواعها كافة، بما فيها الصور والرسائل وقوائم الأصدقاء ولوائح الاتصالات وقوائم تواريخ المكالمات، بمعنى أن هاتف «آي فون 6» يعمل على تشفيرها بصورة مؤتمتة، من دون أن يطلب منه ذلك. واستطراداً، من الضروري القول إن الجمهور يستطيع أن يساهم بنفسه في تدعيم نظام التشفير، عبر تغيير أرقام الدخول إلى بطاقة الخليوي، وجعلها كلمة شخصيّة تحتوي أرقاماً وحروفاً.