تكاد حركة الاحتجاجات التي تشهدها المناطق اليمنية أن تكون الدرس الأهم حتى الآن الذي استطاع أن يهدم الجدار القائم ما بين الطالب والمعلم ويجمعهما على معرفة ملموسة وساطعة سطوع الدم المراق في الشوارع. هي معرفة ربما حررتهما من ثنائية التلقين المتجهم والتلقي الخنوع التي لطالما وسمت علاقة الطلاب بأساتذتهم في بلد تشكل مؤسستا التعليم والجيش أبرز عائقين أمام الديمواقراطية. ولئن أدى استمرار الاحتجاجات الى تعطل الدراسة في بعض الجامعات والمدارس أو تعليقها إلى أجل غير مسمى وتقطعها في مناطق أخرى، إلا أن التحدي الراهن والمستقبلي يكمن في مدى قدرة الفاعلين وصناع القرار، بل المجتمع كله، على تحييد المؤسسة التعليمية وجعلها بمنأى عن الصراعات السياسية وهيمنة الأحزاب. وعلى رغم صعوبة تحقيق هذا الهدف على المدى القريب الا أنه يشكل أساس أي تحديث يرتجى في القطاع. وكانت زيارة لوزير التربية والتعليم تونسَ استهدفت نقل تجربة المنهج التعليمي التونسي إلى اليمن بدعوى قدرته على محاربة التطرف والإرهاب، تحولت إلى موضوع تهكم بعض الباحثين المستقلين الذين رأوا أن الحكومة لم تعد تحسن التمييز بين الأمور. والحاصل في المعضلة التعليمية في اليمن هو تشعبها وتشابكها فيما لا يعدو المنهج أن يكون مجرد حلقة من حلقاتها المتعددة. ويرجع الأمر أصلاً إلى مشكلة مزمنة يعانيها النظام السياسي والاجتماعي اليمني، فهو وإن حاز منظومة تشريعية ونظرية متطورة إلى حد ما، إلا أنه قلما عمل بهذه القواعد والتشريعات بسبب الأزمات والحروب المتكررة. وفي ظل فجوة كهذه بين النظرية والتطبيق يغدو الحديث عن المنهج لا طائل منه طالما أن بقية أدوات العملية التعليمية معطوبة أو معطلة. وتتواتر التقارير والدراسات التي تكشف عطب العملية التعليمية بدءاً من تعيين مديري مدارس معظمهم بالكاد حاصل على الثانوية وبعضهم مخبرون للأجهزة الأمنية مروراً بضعف كفاءة المعلم وقلة اهتمامه بالتنمية المهنية. إضافة الى ترفيع تلامذة الصفوف الأساسية من دون إتقان المهارات الأولية وقصور برامج إعداد المعلّمين في كُليات التربية وترفيع عدد من الراسبين في مختلف المستويات لزيادة نسبة النجاح، إضافة إلى قبول المعلمين الجدد وفقاً لأُسس غير تربوية. ويزاد إلى تلك المشكلات البنوية أخرى سلوكية من نوع انتشار ظواهر الغش وبيع الشهادات وضعف الإنفاق على التعليم وارتفاع عدد الطلاب في القاعة الواحدة وعدم صلاحية كثير من المباني المدرسية وتسرب الفكر المتطرف الى لجان صوغ المناهج وغياب الوسائل التعليمية والمختبرات المصاحبة. والراجح أن الانقسام في مؤسسات التعليم وانقسام الجيش الذي ظهر أخيراً على خلفية الاحتجاجات الأخيرة، أديا إلى تبادل الحكم والمعارضة اتهامات بالزج بالتلاميذ في معمعة الصراع. وهو ليس في الحقيقة إلا أحد ملامح أزمة التعليم الموغلة في السياسة. فالسياسيون على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم ما زالوا غارقين في نوع من التجاذب الفئوي العصبوي والمحلي تحديداً. فكل جماعة تصل إلى سدة الحكم أو تحكم سيطرتها على مجال معين لا تلبث أن تفصّله على مقاس أهوائها وتملأه بمحازبيها وأنصارها حتى وإن كانوا غير أكفياء. والحاصل أن إشكالية التعليم في اليمن هي إشكالية جديدة قديمة ذات صلة بطبيعة التطور السياسي للبلد وتعود إلى لحظة تبلور التنظيمات السياسية عام 1948 وخصوصاً مع ما بات يسمى بحركة الأحرار. وبرز في حينه تياران أحدهما يمثله أحمد محمد نعمان المعروف باسم الأستاذ فيما يمثل التيار الآخر الشاعر محمد محمود الزبيري، وكان النعمان يرى في التعليم أساساً للتغيير فيما يرى الزبيري في قوة القبيلة وسيلة ناجعة للثورة. والمفارقة أن يتحدث الجميع اليوم عن أزمة التعليم ويتباكى على ما حل به لكنه ما إن تطأ قدم أحدهم إدارة المدرسة حتى يحولها ثكنة حزبية. وصار البعض يتحسر على أيام زمان حين كان بعض الدول العربية مثل الكويت يتكفل بالإنفاق على التعليم في اليمن ويستقدم معلمين من دول عربية بكفاءة عالية. وبات تزايد أعداد الفقراء من أسباب ازدياد غير الملتحقين بالمدرسة والمتسربين، كما تؤدي الأجور المنخفضة للمعلمين والعاملين في سلك التعليم الى البحث عن أعمال إضافية مثل سائق باص أو تاكسي أو بائع في محل ملابس بهدف تحسين معيشتهم ما يؤثر في أدائهم التعليمي. ويتمنى بعض أولياء الأمور أن يعمل هؤلاء في مجال الدروس الخصوصية فهذا خير لهم وللبلد، فمن شأنه على الأقل أن يحول دون تدهور مهاراتهم المهنية. وعلاوة على التطرف الديني والمذهبي تنطوي المناهج على ما يعيق دمقرطة الدولة والمجتمع ويعزز ثقافة حقوق الإنسان، فالمقررات المدرسية تكرس معاني الشوفينية وكراهية الآخر وتحقيره وهو تحدٍّ كبير في حال نجحت الثورة وبات عليها الالتفات الى مناهج التعليم.