تسلل التشنّج الطائفي والعرقي المتصاعد في المجتمع الفرنسي منذ فترة الى مقاعد الدراسة في الثانويات الفرنسية، وذلك في مؤشر إضافي إلى فشل سياسة الاندماج التي تعتمدها السلطات الفرنسية. فالمدرسة في بلد علماني مثل فرنسا تلعب دوراً له أهمية بالغة في اطار سياسة الاندماج، باعتبارها مساحة تترسخ عبرها قيم التعدد والمساواة واحترام الآخر. لكن هذه المؤسسة تواجه صعوبات متزايدة في عزل نفسها، وتحصين تلاميذها من تداعيات الأزمات السياسية والاجتماعية. إذ تحولت قيمها المجردة الى موضع إنكار وعدم ثقة، لمصلحة قِيَم على صلة مباشرة بأصول التلامذة وانتماءاتهم الدينية. ويواجه أساتذة الثانويات نتيجة هذا الواقع، صعوبات بالغة لدى تطرقهم الى عدد من المواضيع المدرجة في المناهج التعليمية، بسبب ما تثيره من احتجاجات حادة ومواجهات تحوّل قاعات الصفوف في بعض الأحيان الى ميادين عراك. ونقلت القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي في نشرتها الاخبارية، مساء اول من امس، شهادات لعدد من أساتذة الثانويات حول الصعوبات التي باتوا يواجهونها في أداء عملهم، وتحوّلهم في حالات معينة الى هدف للاتهام، بسبب ما يتناولونه في دروسهم. ووفقاً لما ورد في هذه الشهادات، يتبيّن أن المواضيع الأكثر اثارة للمشاكل هي تلك المتصلة بالحقبة الكولونيالية التي يعتبرها بعض التلامذة من ذوي الأصول الشمال افريقية بمثابة استفزاز لمشاعرهم، رغم جهلهم الكامل بهذه الحقبة واكتفائهم بما يتردد على مسمعهم في محيطهم العائلي. وتبرز الصعوبات ذاتها لدى التطرق إلى مسألة العبودية التي تؤجج مشاعر بعض التلامذة الأفارقة فيصبّون غضبهم على زملائهم البيض، كأنهم مسؤولون عن حقبة العبودية او الحروب الصليبية. ويكاد أن يكون موضوع فلسطين ونشوء إسرائيل من الملفات الأكثر صعوبة لدى الأساتذة، لكونه صراعاً حياً ومحور استقطاب واستقطاب مضاد، غالباً ما تواكب تناوله نقاشات صاخبة واتهامات بالعداء للسامية، لا توفر المدرِّس في بعض الأحيان، وكذلك موضوع «المحرقة» اليهودية. ولا تقتصر الصعوبة على المواد التاريخية بل تشمل كذلك مواضيع فلسفية وعلمية يعتبر بعضهم انها منافية لمعتقداته الدينية، مثل نظرية داروين التي تعدّ من المسائل المثيرة للصدمة. وبسبب هذه الأجواء تحوَّل التلامذة في مناطق فرنسية محددة، خصوصاً الفقيرة منها الى مجموعات متنافرة تتكون من منطلق رفضها المجموعات الأخرى. فالأفارقة يرفضون الآسيويين، والآسيويون منقسمون على أنفسهم بين هنود وأفغان، والأفارقة الزائيريون مثلاً يميزون أنفسهم عن الماليين. وكانت السلطات الفرنسية اعتبرت انها حققت انجازاً بارزاً من خلال قانون حظر المظاهر الدينية في مؤسسات التعليم العام، لكن واقع هذه المؤسسات اليوم يتيح القول ان الإنجاز شكلي لكونه لم يُعِد إحياء التسامح والرغبة في الاختلاط التي يفترض ان يؤمنها التعليم العام. وهذا التردي في أجواء المؤسسات التعليمية يلقي أعباء ثقيلة على المدرِّسين الذين يتعاملون مع الأمر كلٌّ انطلاقاً من طبيعته وشخصيته. ومنهم من يرحب بالنقاشات ولو كانت حادة، اذ يرى فيها سبيلاً لتوضيح الأفكار وبلورتها، ومنهم من يتعامل مع الانتقادات والاحتجاجات بالعقاب، وأحياناً الإقصاء فيما يستسلم آخرون لليأس، ويعملون لتجنّب تدريس المواد التي قد تتسبّب لهم في مشكلات. لكن كل هؤلاء يُجمعون على ضرورة تولي السلطات مهمة إحياء الثقة بقيم الجمهورية، وإزالة ما باتوا يعتبرونه «غيتوات» داخل المدارس وصفوفها.