تحت عنوان «نحو كوكب خال من التلوث»، عقدت جمعية الأممالمتحدة للبيئة لقاءها الثالث في العاصمة الكينية نيروبي خلال الفترة من 4 إلى 6 كانون الأول (ديسمبر) الجاري. تضم الجمعية تحت مظلتها جميع الدول الأعضاء في الأممالمتحدة، في إطار برنامج الأممالمتحدة للبيئة، وتشارك المنظمات الأممية والوكالات المتخصصة والمنظمات الحكومية الدولية ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات القطاع الخاص، وهي بذلك تشكل منبراً رائداً للقيادة في مجال السياسات البيئية العالمية. لقاء نيروبي كان فرصة نادرة لمناقشة موضوع واسع كالتلوث، يضم العديد من القضايا المصيرية مثل الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والتربة التي نزرع فيها غذاءنا، والموائل الطبيعية التي يعتمد عليها الملايين لكسب عيشهم. ويتسبب التلوث، حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، بنحو ربع الوفيات في جميع أنحاء العالم سنوياً. وفي سنة 2012، أدّت المشكلات البيئية، وفي طليعتها التلوث، إلى وفاة 12.6 مليون إنسان من بينهم 850 ألف وفاة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. من ناحية أخرى، ينطوي التلوث على تكاليف اقتصادية كبيرة تتمثل في الخسائر الإنتاجية وتكاليف الرعاية الصحية والأضرار التي تلحق بالنظم الإيكولوجية. في سنة 2013، كانت التكاليف الاقتصادية لتلوث الهواء نحو 5.11 تريليون دولار، وفي سنة 2004 قدرت الخسائر الناتجة من قصور خدمات المياه والصرف الصحي في البلدان النامية بحدود 260 بليون دولار. هذا الأرقام، على ضخامتها، تبقى تقديرات محافظة لأنها لا تشمل جميع أشكال التلوث وتكاليفها غير المباشرة. ومع ذلك فهي تعكس حجم الضرر وتحضّنا على بذل الجهد لتبني إجراءات المعالجة الفورية. فما هي قضايا التلوث التي ناقشها لقاء نيروبي؟ تلوث الهواء يعد تلوث الهواء أكبر خطر منفرد على الصحة في العالم. ففي كل عام يموت ما بين 7 إلى 8 ملايين شخص نتيجة التعرض لتلوث الهواء الخارجي والداخلي، ويستنشق 9 من كل عشرة أشخاص هواءً خارجياً ملوثاً يتجاوز المستويات المقبولة التي تحددها المبادئ التوجيهية لمنظمة الصحة العالمية. ينتج تلوث الهواء أساساً عن حرق الوقود الأحفوري، كما يؤدي تراجع الغطاء النباتي إلى انتشار العواصف الغبارية وزيادة الأجسام الدقيقة في الجو. ولا يقتصر تلوث الهواء على الأجسام الدقيقة والمركبات السامة كالإسبستوس والأوزون الأرضي، التي تشكل أضرار مباشرة على صحة الإنسان وإنتاج الغلات الزراعية، بل يمتد ليشمل المطر الحمضي الذي تساهم في تشكيله أكاسيد الكبريت من الصناعات الثقيلة والبتروكيماوية، وأكاسيد النيتروجين التي تنتج من احتراق وقود الديزل في وسائط النقل ومحطات توليد الطاقة التقليدية. ويؤدي المطر الحمضي إلى اختلال بيئي واضطراب في التنوع الحيوي ضمن الأوساط المائية، كما يتسبب بانخفاض معدل تحلل المواد العضوية في التربة وتراجع إنتاج الغابات. وتكون آثار هذه الانبعاثات ظاهرة للعيان في أكثر الحالات، وأبرز مثال على ذلك مساهمة أكاسيد النيتروجين في تشكل الضباب الدخاني، الذي أودى بحياة 4000 شخص في لندن سنة 1952. ولا تزال مشكلة الضباب الدخاني إحدى أبرز التحديات البيئية في العديد من الدول، مثل الهند والصين وبريطانيا. تغير المناخ، الذي يعد أكثر مظاهر تلوث الهواء خطراً على العالم بأسره، يرتبط بالأنشطة البشرية المسببة لانبعاث غازات الدفيئة، مثل ثاني أوكسيد الكربون والميثان وأوكسيد النيتروز. وهي في أغلبها تتحرر نتيجة استهلاك الوقود الأحفوري، كما في محطات الطاقة أو بفعل تحلل المواد العضوية كما في مكبات النفايات العشوائية. تلوث الأراضي والتربة ينتج هذا التلوث عن سوء الممارسات الزراعية، وغياب الإدارة السليمة للنفايات الصلبة، وما تسببه الأنشطة الصناعية والعسكرية والتعدينية من أضرار واسعة. وتؤثر المكبات العشوائية وحرق القمامة في الأماكن المكشوفة على الصحة العامة، وسبل العيش، كما تخل بكيمياء التربة والعناصر المغذية فيها. ويمثل أكبر خمسين موقعاً لدفن النفايات البلدية في العالم خطراً مباشراً على حياة 64 مليون شخص نتيجة تأثيراتها الصحية الممرضة وأخطار حدوث انهيارات فيها، علماً أن بليوني شخص حول العالم لا يحصلون على خدمات إدارة النفايات الصلبة. التعرض المفرط لمبيدات الآفات، التي تستخدم في إنتاج المحاصيل والإنتاج الحيواني، يؤثر في صحة الجميع، رجالاً ونساءً وأطفالاً. كما تشكل مخزونات المواد الكيميائية القديمة، وتلك التي تتسرب إلى التربة والمياه الجوفية من مكبات النفايات تهديداً لصحة الإنسان والبيئة. تلوث المياه العذبة تتعرض كتلة المياه العذبة الجوفية والسطحية، التي يعتمد عليها بلايين البشر للحصول على الماء والغذاء ولأغراض النقل، إلى أشكال تلوث مختلفة أهمها فائض الأسمدة المغذية من الأراضي الزراعية، والمواد الكيميائية والعوامل الممرضة من مياه الصرف الصحي والصناعي غير المعالجة، والمعادن الثقيلة التي تتسرب إليها من أعمال التعدين والمخلفات الصناعية السائلة. إن عدم توافر سبل الحصول على مياه نقية وعدم معالجة الصرف على نحو صحي من الأسباب الرئيسية لوفيات الأطفال حول العالم. وغالباً ما تؤدي ظاهرة «الانفجار الطحلبي» نتيجة الإثراء الغذائي لمسطحات المياه العذبة إلى موت أعداد هائلة من الأسماك والكائنات الحية، وقد ينتقل تلوث المياه العذبة إلى الأراضي المجاورة ويصل إلى مصبات الأنهار على شواطئ البحار حاملاً معه الملوثات الكيميائية الخطيرة والعوامل الممرضة بما فيها تلك المسببة للكوليرا والبلهارسيا، علماً أن 80 في المئة من المياه المستعملة في العالم يتم تصريفها من دون معالجة. التلوث البحري والساحلي تستقبل المياه البحرية والساحلية أشكالاً متعددةً من النفايات والملوثات مثل الحطام البحري، وتسربات النفط، والمعادن الثقيلة، وحتى النفايات الخطيرة والمشعة. ويأتي هذا التلوث من مصادر برية ومن أنشطة الصيد والنقل البحري، إلى جانب قطاع التنقيب عن النفط والغاز في أعماق البحار. وتؤدي الملوثات، بما فيها المغذيات التي تحملها منصرفات الري الزراعي ومياه الصرف الصحي غير المعالجة، إلى نشوء مناطق ميتة يقل فيها تركيز الأوكسيجين إلى درجة لا تدعم وجود الكائنات الحية البحرية. كما تهدد الملوثات العضوية الثابتة، الموجودة في المبيدات ومواد الطلاء وبعض المنتجات البلاستيكية، الشعاب المرجانية والنظم الطبيعية للأعشاب البحرية، حيث تتراكم في السلسلة الغذائية البحرية وتشكل خطراً على الطيور والثدييات والبشر. ويتسرب سنوياً ما بين 4.8 إلى 12.7 مليون طن من النفايات البلاستيكية إلى المحيطات، فتنتشر عبرها مهددة بأخطارها النظم الإيكولوجية وصحة الإنسان. استجابةً لأشكال التلوث الخطيرة هذه وطبيعتها العابرة للحدود، أبرمت الحكومات اتفاقات بيئية متعددة الأطراف أو إقليمية محددة الأهداف، مثل اتفاقية بازل التي تنظم نقل النفايات الخطرة والتخلص منها عبر الحدود، وبرتوكول مونتريال الخاص بالمواد المستنفذة لطبقة الأوزون، واتفاقية ميناماتا بشأن الزئبق التي دخلت حيز التنفيذ قبل أشهر قليلة. هذه الاتفاقات حققت نجاحات متفاوتة في مواجهة التلوث، ولعل أبرز قصص النجاح كانت في العمل الدولي الذي وفّر الأسباب لبدء تعافي طبقة الأوزون. من ناحية أخرى، كان تغير المناخ أكثر القضايا البيئية التي أثارت تجاذباً بين الدول، ولم يتحقق الإجماع العالمي حولها إلا مؤخراً، عبر اتفاقية باريس التي انضمت إليها جميع الدول، واختارت الولاياتالمتحدة البقاء خارجها. وما يحسب للتعاون الدولي في هذا المجال حفزه للنمو المطرد في الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، وما رافق ذلك من توفير وظائف جديدة بلغت نحو 10 ملايين فرصة عمل في سنة 2016. إن الاتفاقات العالمية والإقليمية لا تكفي وحدها لمعالجة جميع مشكلات التلوث، إذ يستوجب الأمر اتخاذ مزيد من الإجراءات على المستويين المحلي والدولي. هذه الاتفاقات ليست فاعلة بالقدر الذي يجب أن تكون عليه لأسباب عدة، من بينها: ضعف القدرات المؤسسية وعدم توفر الموارد، وغياب حقوق الملكية أو الوصاية ما يجعل من المحيطات والغلاف الجوي والأراضي النائية مشاعاً للملوثين، وعدم توفر الإرادة السياسية، وقصور الوعي وكثرة الثغرات المعرفية، وسوء تسعير التلوث وعدم وضوح القيم الإيكولوجية. خلال السنوات الخمسين الماضية، تراجعت حصة الفرد من موارد المياه العذبة المتاحة من 13 ألف متر مكعب إلى أقل من 6 آلاف متر مكعب، وارتفع عدد المناطق الميتة في البحار من 50 منطقة إلى نحو 650 منطقة، وتم تصنيع نحو 140 ألف مبيد ومركب كيميائي جديد، وازداد انبعاث الكربون من 10 جيغا طن مكافئ كربوني إلى أكثر من 35 جيغا طن، وفقدت الأرض أكثر من نصف تنوعها الحيوي، وتضاعف عدد البشر بمقدار مرتين ونصف مرة. بعيداً عن هذه الأرقام المقلقة، فإن أكثر أشكال التلوث يمكن الحد منها، وغالباً ما يترافق ذلك بوفورات وعوائد مالية. الدول ذات الدخل المرتفع، إلى جانب بعض الدول ذات الدخل المتوسط، أصدرت قوانين وقواعد ناظمة للهواء والماء النظيفين، ورسمت سياسات للسلامة الكيميائية، كما أنها وضعت حداً لأسوأ أشكال التلوث التي تعاني منها. هواء هذه البلدان وماؤها أكثر نقاوة الآن، وتراكيز الرصاص في دماء أطفالها انخفضت في شكل كبير، ومدافن نفاياتها الخطرة جرى تأهيلها بيئياً، والعديد من مدنها أصبحت أقل تلوثاً وأكثر قابلية للحياة. إن تحدي اليوم بالنسبة إلى البلدان ذات الدخل المرتفع هو الإقلال من التلوث، والاستغناء عن الوقود الأحفوري، والترشيد في استهلاك الموارد التي يقوم عليها اقتصادها. أما الادعاء بأن مكافحة التلوث تخنق النمو الاقتصادي، وأن البلدان الفقيرة يجب أن تخوض مرحلة المعاناة البيئية والصحية لتحقيق الازدهار، فهو ادعاء ثبت بطلانه مراراً وتكراراً، كما تبين في اجتماعات نيروبي. فمعظم الدول التي حققت أعلى معدلات النمو الاقتصادي تمكنت في الوقت ذاته من تخفيض انبعاثات الكربون. * (يُنشر بالاتفاق مع مجلة «البيئة والتنمية»)