نحن على عتبة تغيير تاريخي في سورية، لا أقلَّ من ذلك. أحداثُ الشهر الماضي توفِّر ما يكفي من أدلة ومعطيات للخروج بقناعتين صلبتين: الأولى، أن النظام لم يُثبت أمام الداخل والخارج قدرتَه على إجراء إصلاحات ذات مغزى. والثانية، أن الحركة الجماهيرية مستمرة ومتصاعدة بعد سقوط حاجز الخوف. ولا يترك تعدد التظاهرات وتزايد أعداد المشاركين فيها وتمددها إلى مدن ومحافظات جديدة، مجالاً للشك في أن النظام لم يعد يسيطر على الشارع، وأن المبادرة خرجت من يده. لكن الحقيقة هذه لا تنفي أن انتقال السلطة قد يكون بالغ الصعوبة، والتجربة تُفيد أن التغيير لا يأتي دائماً وفق تصورات المشاركين فيه، بل يَحِلُّ على الأغلب، على صورة خيار بين السيئ والأسوأ. تعقيد المشهد السوري، وارتباط عناصره الكثيرة بأوضاع المنطقة وصراعاتها يبطِّئ، إلى جانب القمع العنيف الذي تمارسه السلطات، وتيرةَ الحركة المعارضة، ذلك أن الاستثمار الكثيف للحكم في السياسة الخارجية، من العلاقات الوطيدة مع إيران إلى التعاون السياسي والاقتصادي مع تركيا فالانخراط في السياسات اللبنانية والفلسطينية وما يتفرع منها، من تسليح ودعم لحركات المقاومة، إضافة إلى العلاقات الطائفية الداخلية غير الصحية، المتفاقمة حالتُها منذ الثمانينات، كلها أمور تشي بأن التغيير لن يكون سهلاً، وأن العنف الداخلي أو الحرب الاقليمية غير مستبعدَيْن. ويملك النظام السوري أوراقاً داخلية وخارجية عدة، لم يُخرجها بعدُ من أكمامه، وهي قد تساعده على قلب الطاولة في حال شعر بدنو أجله. وعليه، يبدو مطلوباً من الفرقاء اللبنانيين المعارضين للحكم في سورية - خصوصاً - الابتعاد عن تناول التطورات، التي تزيد من حساسية النظام وقد تدفعه الى تصدير أزمته إلى الخارج، على غرار اتهامه بعض نواب تيار «المستقبل» بتهريب اسلحة الى سورية، او دفعه بعض حلفائه إلى توتير الأجواء لغايات تخدم النظام وتحوِّل الأنظار عن مآزقه. المثير للانتباه أن اللبنانيين مهتمون بالثورة السورية بالقدر ذاته الذي يبديه السوريون، فالتاريخ المشترك الطويل بين الشعبين، وآلاف حالات المصاهرة والقرابة، والشعور العام بين اللبنانيين أن سورية هي الحاضن الطبيعي والاجتماعي والسياسي لبلادهم، تتجاور كلها مع معاناة شارك اللبنانيون فيها السوريين من ممارسات النظام الحالي، وتعود إلى الأشهر الأولى للحرب الأهلية اللبنانية، التي قررت السلطة السورية استخدامها كإحدى روافع سياستها الخارجية، وكمتنفَّس لتهريب الاحتقان الداخلي. لذا، لا يبدو الاهتمام اللبناني غريباً، ولا يُعتبر تطفلاً على الشؤون السورية، وليس انقسامُ اللبنانيين الحاد حيال التطورات في البلد الشقيق سوى انعكاس لانقسامهم الداخلي، فالمطالب المشروعة، بل البديهية في الحرية والكرامة والعدالة التي يرفعها السوريون اليوم، لا تعني شيئاً بالنسبة إلى من حزم أمره في تأييد النظام وصمّ أذنيه عن الدعوات إلى سيادة القانون وإنهاء الاستبداد المهيمِن، بذريعة وقوف الرئيس بشار الأسد وحكومته ضد الهجمة الاسرائيلية - الاميركية. وقد يكون تجاهل قوى 14 آذار للتحذيرات من خطر انهيار النظام السوري على أمن المنطقة في حال لم يتبلور بديل مقنع، نابعاً من المصدر ذاته، أي العداء الأهلي والداخلي بين اللبنانيين. غني عن البيان ان مستقبل سورية لا يُرسم في لبنان، ولا في غيره من البلدان، بل يخطه السوريون بدمهم وصبرهم. وبالوضوح ذاته، يتعين القول إن تأييد من يَعتبر نفسه من قوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية للحكم في سورية، لأسباب بعضها معروف ومعلن وبعضها الآخر ما زال طيَّ الكتمان، سينعكس سلباً على العلاقات المقبلة بين سورية الجديدة والقوى هذه.