لعل أبرز ما أثبتته موجة الانتفاضات التحررية، أن العالم العربي يشبه نفسه أكثر مما يشبه أي منطقة أخرى، ثقافية أو استراتيجية، في عالمنا الواسع. ويكشف السياق التاريخي عن دوافع مشتركة لدى الثوار في كل هذه البلدان، أو جُلِّها، إذ تكاد البلدان العربية المنتفضة شعوبُها تمثِّل نماذجَ للدولة السيئة، إن لم تكن الفاشلة، تلك التي تجمع بين الصلادة وبين الرخاوة، فهي صلدة في مواجهة مواطنيها، تحرمهم من المنظومة الحقوقية بدعوى الحفاظ على الأمن القومي، حيث تهيمن حسابات الأجهزة الحكومية والمخابراتية ذات الطابع السيادي على عمل الأجهزة التشريعية والقضائية، وعلى حساب اعتبارات الحرية الفردية في التفكير والتعبير، والاعتقاد والتنظيم والاجتماع، وأحياناً السفر الى الخارج، ولكنها في المقابل رخوة في مواجهة الخارج. ورغم أن كل تعاملاتها الصلدة في مواجهة مواطنيها قد تم تبريره بعداء هذا الخارج لها، فإنها لم تثبت قط نجاحات كبرى في المواجهة معه، فهي إما تورطت فعلياً في هزائم عسكرية، وإما ارتهنت لقواعد التوازن الدولي طيلة الحرب الباردة. لم يكن مستغرباً حجمُ التأييد - إلى درجة الاحتفال الطقسي الراقص - مِن قِبَل هذه الشعوب بكل انتصار يحققه شعب عربي على طبقته الحاكمة. ولا يقلل من هذا التأييد المطلق بعضُ التحفظات التي قد تبديها هذه الشعوب إزاء التطورات السلبية للأحداث، والتي قد تثير المخاوف، من قبيل: التدخل الغربي، أو الانقسام الأهلي، أو التفجر الطائفي، على منوال ما يجري في ليبيا واليمن والبحرين على سبيل المثال. ويعكس جُلُّ النخب الحاكمة بنيةً ذهنية راكدة ومستغلقة، إلى درجة فاضحة أحياناً، في رؤية مجتمعاتها وإدراك العالم من حولها، تبدَّتْ واضحةً في كيفية تعاطيها مع حركات الاحتجاج المتفجرة في بلدانها. فجُلُّ هذه النخب يبدأ برفض وجود معارضة حقيقية «وطنية» وإنكارها، والادعاء بأن المحتجين ليسوا إلا عملاء يخدمون أجندات أجنبية، إما بوعيٍ (متآمرون) أو بغير وعيٍ (غافلون). يلى ذلك التأكيدُ مِن قِبَل كل نخبة على أن ظروف بلدانها مختلفة عن سواها من البلدان التى سبقت على طريق الثورة والانتفاض. يعقب ذلك، أو يوازيه أحياناً، تقديمُ تنازلات الحد الأدنى، أو الهامشية، من قبيل: تغيير الوزارات، أو القبول برفع حالة الطوارئ المعلَنة قبل أزمان بعيدة، التي وإن كانت متفاوتة في كل دولة إلاّ أنها في كل الأحوال تقاس بالعقود، عوضاً عن تقديم تنازلات في المتون. يلي ذلك تصاعد المطالب الاحتجاجية، وما يترتب عليه من تغيُّر في نغمة التعاطي معها والاقتراب من تقديم تنازلات، ولكن في وقت متأخر، يكون المشهد السياسي فيه قد أوشك على التفجر، فيما أحلام الثورة والثوار تكاد تلامس بلا سقوف عنانَ السماء، اللهم سوى إسقاط المتن السياسي الذي يحتوي النظام القائم كلَّه وصولاً إلى لحظة الانفجار. ويمتد هذا التشابه إلى ردود أفعال النخب في الدول غير الثائرة داخل المحيط العربي، والذي يقوم بدور المراقب، ولو لفترة قصيرة، قبل أن يبدأ في مواجهة مصيره الفردي الخاص في كثير من الأحيان. هذه النخب تُبدي لتوِّها عدمَ تأييد مبدئي لحالة الفوران، محذرةً - كنظيراتها من نخب البلدان الثائرة - من مغبة الاندفاع نحو الفوضى، ومن مخاطر الاحتراب الأهلي العرقي أو الطائفي، أو حتى التدخل الخارجي، داعية الجماهير في البلدان الثائرة إلى التروي والحكمة والقبول بالإصلاح التدريجي الهادئ والآمن، إدراكاً لكونها جميعاً في مهب العاصفة. ولا يقلل من هذا الرفض أو التحفظ المبدئي، ذلك التحولُ في الخطاب ولا في السلوك السياسي لدى هذه النخب تبعاً لمتغيرات الأحداث وتوالي الوقائع، إذ إنها سرعان ما تضطر إلى مجاراة الشعوب الثائرة، كما حدث مثلاً في حالتي مصر وتونس. هذه التشابهات الثقافية التي كشفت عنها أفعال وردود أفعال النخب والشعوب العربية، في خضم انتفاضاتها التحررية، إنما تولِّد لدينا استنتاجاً ضرورياً حول مستقبل الفكرة القومية. وفي هذا السياق، قد تحدث مفارقة نراها ممكنة، بل وواقعية، وجهها الأول ماثل للعيان، وهو أن الخطاب القومي لم يكن حاضراً بقوة لدى أي من حركات الاحتجاج في أي من البلدان الثائرة، فالقضايا الكبرى المنسوبة دوماً إليها، من قبيل: الوحدة، وفلسطين، والتحدي الإسرائيلي، والعداء مع الغرب، لم تكن مشهرة، ناهيك عن أن تكون متصدرة للمشهد الاحتجاجي الواسع. أما وجهها الآخر، فيمكن استنتاجه، وهو أن النجاح المتوالي لهذه الحركات الاحتجاجية سوف يعيد للفكرة القومية بريقها مع استعادة بريق الشخصية العربية نفسها، فعندما تتمكن الشعوب فرادى من إعادة اكتشاف نفسها وطنياً، فالمؤكد أنها سوف تعيد اكتشاف نفسها قومياً. لكن، وكما أن الدولة العربية الوطنية سوف تكون جديدة، فإن الفكرة القومية المنبعثة سوف تكون هي الأخرى متجددة، وسوف يتعين عليها من الآن أن تقدم اعترافاً كاملاً بحقيقة «الدولة العربية» التي لم تعد مجرد دولة «قُطْرِيّة»، بل أصبحت دولة «وطنية» عانت بلا شك أزمات شتى، ولكنها كافحت من أجل ترسيخ حضورها، فلم تعد مجرد ذلك الشر الذي لا بد منه في مواجهة دولة الوحدة، ولا حتى مجرد الخطوة القصيرة على طريق الوحدة الطويل، ولكنها تلك المرحلة الكبرى، التي قد تكون طويلة جداً أو نسبياً، بل غير المحدودة بزمن والمفتوحة على أفق التاريخ بكل ممكناته، التي قد يكون أحدها أن تصبح هذه الدولة الوطنية محطة وصول نهائية في بنية الكيان السياسي العربي، فنجاح هذه الدولة الوطنية العربية «الجديدة» في فرض نفسها على الزمن، وتحقيق خلاصها السياسي من قبضة نخبها البالية، لا بد من أن يدفعنا إلى الاعتراف بأصالتها، كحقيقة جوهرية، ربما استطعنا أن نبني عليها، بشكل أو بآخر، حقيقةً «قومية» أكبر، لا شك في أصالتها هي الأخرى، ولكن من دون أن تنفي الأخيرة أصالة الحقيقة الأولى. وهنا يتوجب على الفكر القومي أن يتبنى أحلام هذه الدولة الوطنية وغاياتها في النهوض والتقدم والازدهار، وأن يصوغ أحلاماً قومية جديدة جوهرها التضامن والتكتل والتحالف بدلاً من الغاية «القومية» الوحيدة الممثَّلة في الوحدة، والتي أدى غيابُها أو العجز عن تحقيقها، إلى جعل وجودنا السياسي العربي كلُّه مَحْضَ هزيمة ثقافية وتاريخية، بل وأقرب إلى خطيئة سياسية أصلية لم نستطع التحرر منها طيلة القرن المنصرم. * كاتب مصري