ندوة «الربيع العربي» التي نظمتها وزارة الخارجية الفرنسية وحضرها وزير الخارجية ألان جوبيه في «معهد العالم العربي» في قاعة رفيق الحريري أظهرت جرأة وصراحة جديدتين للديبلوماسية الفرنسية إزاء ما يجري من تغيير في العالم العربي. لقد دعي الى هذه الندوة ناشطون من مصر وتونس وسورية ومثقفون وديبلوماسيون فرنسيون وعرب، وجرت المناقشات بعيداً عن اللغة المعتمدة تقليدياً أمام الديبلوماسيين والمسؤولين السياسيين. وأراد جوبيه شرح المبادئ الجديدة للديبلوماسية الفرنسية أمام ديبلوماسيين عرب. وحضر معظم السفراء العرب أو ممثلوهم، وعشية افتتاح هذه الندوة جمع الوزير الفرنسي جميع سفراء فرنسا في العالم العربي الذين حضروا أيضاً الندوة الى جانبه من أجل فهم ما حدث من تطورات في العالم العربي قبل تحديد سياسة جديدة فيه. واضح أن خطاب جوبيه في اختتام هذه الندوة يمثل مرحلة جديدة من السياسة الفرنسية إزاء العالم العربي، وتحدث جوبيه الى «الحياة» قبل الندوة قائلاً أن لم يكن أحد يتوقع هذه التطورات، وراهنّا حتى النهاية على استقرار دول حوض المتوسط لأن هذا كان مناسباً لنا ولكن الأمور انفجرت في وجهنا من المغرب حتى اليمن فكيف نفسر أننا لم نفهم ولم نرَ؟ جاءت هذه الندوة التي تم الترتيب لها في مديريات الخارجية المعنية: مديرية الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ورأسها ديبلوماسي مستشرق بارع يعرف العالم العربي معرفة جيدة هو السفير باتريس ياولي، ومديرية التخطيط الديبلوماسي الذي يديرها جوزف مايلا الواسع الخبرة في القضايا العربية، ومديرية العولمة وعلى رأسها ديبلوماسي اختصاصي بالشؤون الاقتصادية التي لعبت دوراً أساسياً في الثورات هو كريستيان ماسي. وكان نجاح هذه الندوة في حضور عربي فرنسي واسع مع مشاركة فاعلة للوزير الذي حضر استثنائياً كل الجلسات واستمع الى روايات الناشطين وكيف غيرت الثورات مجرى الأمور في كل من مصر وتونس. ولا شك أن خطاب جوبيه الختامي جدد توجهات جديدة لسياسة فرنسا في هذه المرحلة من التغييرات في العالم العربي على ضوء ما يجري وما سمعه خلال الندوة وخلال زياراته الى مصر وتونس حيث اجتمع بالناشطين والمسؤولين وبأعضاء من المجتمع المدني. وقال جوبي في خطابه: هذا الربيع العربي لا ينبغي أن يخيفنا فهو ثمرة شجاعة استثنائية ويفتح آمالاً ضخمة ولكنه أيضاً تحدٍّ كبير. ومن الآن فصاعداً صارت الحكومات تعرف أن عليها أن تتيح لمواطنيها أن يسمعوا أصواتهم والكل يعرف أنه لم يعد ممكناً قمع تطلعات الشعب الشرعية. ولكن لكل وضع خصوصياته ويعود لكل شعب أن يأخذ مصيره بيديه وينشئ نموذجه الخاص. وما يستخلصه الوزير الفرنسي من هذا الربيع العربي هو أن على فرنسا أن تضمن احترام حقوق الإنسان في حين أنها في الماضي كانت مترددة إزاء ذلك التحرك خوفاً من تهديد التطرف. وأوضح أن فرنسا ستكون حازمة إزاء أي خرق لحقوق الإنسان كما تفعل في ليبيا وبحسب خطورة الوضع. وأضاف: «سنستخدم جميع الوسائل التي في متناولنا لوضع حد لذلك. فهناك آليات عدة بما فيها العقوبات واستخدام القوة في الأوضاع القصوى تحت مظلة مجلس الأمن». وأوضح جوبيه أن سياسة فرنساالجديدة لا تهدف الى تغيير الأنظمة فهي ترتكز الى القانون الدولي ومسؤولية الحماية مثلما يحدث في ليبيا. والتحدي الصعب الذي أكده الوزير في خطابه هو التحدي الاقتصادي والاجتماعي. فأشار الى ضرورة مساعدة الشعوب التي شهدت ثورات. فالاقتصاد وتحسين وضع الشعوب الغارقة في الفقر ضروري وإلاّ ذهبت هذه الشعوب الى التطرف لو بقيت على الوضع نفسه خلال ستة أشهر أو سنة. ففرنسا أقرت سياسة جديدة قائمة على عدم غض النظر عن القمع وخرق حقوق الإنسان وبذل جهود كبرى من أجل مساعدة جيرانها على الشاطئ الجنوبي للمتوسط لإنهاضهم اقتصادياً، مع الاعتراف أنه لم يعد ممنوعاً التحاور والتحدث مع الحركات الإسلامية من دون عقد شرط أن تحترم المبادئ الديموقراطية وتبتعد كلياً عن العنف. ولم ينسَ التأكيد على أهمية مساعدة الشعب الفلسطيني على تحويل الدولة الفلسطينية الى واقع وعلى تعلقه بلبنان سيد وحر على أن يبقى مثالاً على حيوية مؤسساته الديموقراطية في العالم العربي. لا شك في أن فرنسا وضعت المعالم الجديدة التي سترتكز عليها سياستها في العالم العربي. ولكن السؤال يبقى إذا كان التحدي الاقتصادي الصعب سيتيح لها تحقيق ما تريده في ظل وضع اقتصادي رديء في فرنسا وأوروبا.