قالت: خطوتُك على الدرب غريبة. فوقفتُ في مكاني، وكنتُ لم أتجاوز الباب المفتوح بعد. كانت جالسة مسنودةً إلى الباب الموارب، وعصا غليظة ممدّدة في حجرها: الخالة أم صباح. هتفتُ في داخلي، وتبسمتُ لأذنها المشرعة حيث تجعل الطرحة بعيدة مِن أذنيها، قلتُ: إزيك يا خالة. قالت بالصوت نفسه: حسك مش غريب. قلت لأريحها وأنا أجلس بجوارها في الظل متقياً النار الموقدة في الشارع: أنا واد فُلانة. خبَطت صدرها برفق بيدها اليمنى، بينما اليد اليسرى تمتد بحثاً كي تمسك بطرف ثوبي: واد الحبيبة... الله يرحمها. وكان أن قبضت على طرف الجلباب وراحت تجره نحوها برفق، قالت: حتى أنت البعيد جابك الخبر. وعرفت أنها تقصد الريس شق الريح، فهززت رأسي موافقاً، لكن من المؤكد أنها لم تر ذلك وإن أحسّت به، فأكملت: العلم عند الله. ثم وكمن تذكّر شيئاً بعيداً: كان طيب... يعدي عليّ من وقت للتاني، يرمي السلام ويطمن على الحال... وأنت جاي لخالتك؟ قلتُ: آه. محاولاً أن تكون حيادية قدر الإمكان، فخبرتي بالخالة أم صباح بعد أن أصابها العمى وصارت كل حواسها فى أذنيها، تجعلها حسّاسة جداً لوقع الكلام وطريقة نطقه. رميتُ بصري داخل البيت، بدا نظيفاً ومرتباً، الحوش مكنوس وفي قلبه سرير الجريد بلا الفرش في الظهيرة المتقدة هذه. الزير قريب منا ينز الماء عن جداره الخارجي، ولا أثر لدجاج أو حمام، مع أني أعرف أن حياتها قائمة على التكسب من تربيته وبيعه، فبعد موت الزوج، أبو صباح، تاركاً قطعة أرض صغيرة، آلت بالتبعية لواحد من أعمام صباح، يزرعونها ويعطونها القليل الذي لا يكفي تكاليف الحياة لأرملة شابة وطفلتها. قالت: مِن يوم المرحومة أمك بطّلت تيجي هنا. قلتُ: مشاغل الدنيا يا خالة. قالت: صحيح يا ولدي... الدنيا تلاهي. المشاغل تسرق العمر؛ وهنا أهلك وناسك. ثم كمَن تذكرت شيئاً مهماً، جرّت ثوبي نحوها: اتجوزت ولا قاعد لحالك؟ قلتُ محاولاً تخطي شرَك كلامها: اسألي عن النصيب يا خالة. ضحكت وبان فمها شبه الخالي من الأسنان: النصيب... آه. وأفلتت طرف جلبابي وتهدّج صوتُها في الآهة، فأدركت أني لم أفلح، وبات عليّ التصرف السريع، فوقفتُ عازماً على التحرك وأنا أتساءل: ما الذي جاء بقدميَّ إلى هذا الدرب القديم؟ وهي قبضت على عصاها وخطّت بها ثلاثة خطوط على الأرض، قالت: كل خط بعشرة... تلاتين سنة يا ولدي. نقلت قدمي خارج الباب حيث لهيب الشمس الذي تكثفه الجدران الأسمنتية التي أحاطت ببيت الخالة أم صباح، فبدا معزولاً. بيت من الحجر والطين؛ أسقفُه مِن الجريد والبوص؛ بينما البيوت من حوله ترتفع ملتهمة الفضاء بجدرانها الأسمنتية التي تفح بصهد الحرارة في وجهه. نظرتُ إليها بإشفاق كبير وكانت غائبة في إعادة تأكيد الخطوط بالعصا وتردد: تلاتين سنة. قلتُ بصوت خفيض لكنه كاف كي تلتقطه أذنها: ربنا يقرّب البعيد. فارتجفت يدها القابضة على العصا قبل أن تسكن تماماً، وهي تستدير نحوي بكامل جسمها، غير أني تحركتُ وأنا أقول: أشوفك بخير يا خالة.