فقد نظام العقيد معمر القذافي كثيراً من أركانه منذ تفجّر الثورة في شباط (فبراير) الماضي. انشق كثيرون والتحقوا بالثوار. لكن آخرين رفضوا أن يكونوا طرفاً في الأزمة الحالية. فليس سهلاً أن ينقل الرجل بندقيته من كتف إلى آخر ويتحوّل فجأة من «ابن النظام» إلى أشد مناوئيه. فرحات بن قدارة، محافظ مصرف ليبيا المركزي، يبدو واحداً من هؤلاء. انشق عن النظام في آذار (مارس) الماضي، لكنه يرفض أن يتحوّل أداة في الحرب الإعلامية ضده. يمكنه ذلك بالطبع، فهو «حامل مفاتيح ماليات نظام القذافي»، كما وصفته صحيفة «فايننشال تايمز». يقول بن قدارة في مقابلة مع «الحياة» هي الأولى له مع صحيفة عربية منذ انشقاقه الشهر الماضي، إن العقوبات الدولية تؤثر فعلاً في النظام الليبي ولكنها تؤثر أيضاً في الشعب الليبي. ويرى أن أياً من طرفي النزاع، حكم العقيد القذافي والثوار، لم يمكنه حسم المعركة لمصلحته، وأن المطلوب بالتالي «تحويل مسار التغيير إلى مسار سلمي». وعاد بن قدارة إلى ليبيا في عام 1993 بعدما حصل على شهادة ماجستير من جامعة شفيليد البريطانية. وعمل في البدء محاضراً في قسم الاقتصاد بجامعة قاريونس ثم في مصرف الوحدة، قبل أن يتولى في عام 2000 منصب نائب محافظ مصرف ليبيا المركزي، ثم منصب محافظ المصرف المركزي من عام 2006 وحتى آذار (مارس) 2011. وقال بن قدارة الموجود حالياً في تركيا: «أنا بطبعي لا أحب العنف، وأعتقد أن استخدام العنف حتى داخل الأسرة لا يأتي سوى بنتائج سلبية». وأوضح في رده على أسئلة «الحياة»: «للأسف، برنامج الإصلاح في ليبيا لم يكتب له النجاح، على رغم الجهود الكثيرة التي بُذلت والتي كاد يدعمها سيف الإسلام القذافي. لم ينجح هذا البرنامج بسبب التردد والتشكيك في نيات الإصلاح واللعب على الوتر الأمني تارة وتارة أخرى على أوتار فكرية غير واقعية». وزاد: «الصراع بين التيار الإصلاحي وتيار آخر ضد الإصلاح أدى إلى تأخر عملية الإصلاحات الأمر الذي لعب دوراً في تفجّر الثورة من أجل الحرية والديموقراطية. لو نجحت عملية الإصلاح لما كان من سبب للثورة». لكنه أوضح أن «العامل الأساس الذي أدى إلى تفجّر الثورة وتوسّع دائرة الاحتجاجات كان استخدام العنف غير المبرر ضد المتظاهرين، والعنف لا يولّد إلا العنف، لذلك تحوّل المتظاهرون أيضاً إلى استخدام العنف وتحوّلت المطالب المشروعة المتاحة سلماً إلى ثورة مسلحة، وسقطت أعداد كبيرة من الشهداء. وللأسف، فإن نزيف الدماء ما زال مستمراً في ليبيا ولا شيء في نظري أغلى من الدم والوطن. وهذا كان سبباً لأي إنسان يملك قراره أن يثور. وأنا شخصياً قررت ترك النظام ولم يكن أمامي إلا مغادرة الوطن ولا يوجد أعزّ منه عندي». وقال: «في مثل هذه الظروف لا يمكن الإنسان إلا أن ينحاز للشعب والوطن. الأنظمة والسلطة والمناصب والمال أشياء رخيصة إذا ما قورنت بالوطن. كنت أنوي تقديم استقالتي بعد وصولي إلى إسطنبول مباشرة، ولكن نصحني من تهمهم مصلحة ليبيا بأن أتمهّل لأن ذلك لا يخدم مصلحة الوطن. حاولت أن أخدم شعبي بأن أقنع العالم بالآثار الكارثية لفرض حصار شامل من دون مراعاة الجوانب الإنسانية، والاتصالات التي قمت بها موثّقة ومعروفة لدى وزارة الخزانة الأميركية وبعض الدول الأوروبية. وعندما أصبحت غير قادر على ذلك، قدّمت استقالتي ولم أعد محافظ ليبيا المركزي منذ آذار 2011». وأوضح بن قدارة: «ليس لدي أي أجندة سياسية، ولست في تنظيم سياسي ولا أرغب في أي دور سياسي. ولكن احتراق ليبيا والدماء التي تُسفك كل يوم لا يمكنني أن أقف حيالها موقف المتفرج. ويعلم كثيرون أنني أتعاون وأقدّم كل ما أستطيع لخدمة شعبي... وهناك كثيرون مثلي». ورفض بن قدارة أن يشكّل خروجه الإعلامي مناسبة كي يشن هجوماً على أركان نظام العقيد القذافي، قائلاً: «ليبيا دولة صغيرة، والليبيون يعرف بعضهم بعضاً ويعرفون من هم الذين يفعلون الخير ومن يقومون بالشر... ولكن للأسف، التوجّه العنيف الذي فُرض على مسار التغيير في ليبيا نحو الديموقراطية والحرية سيجعل الوصول إلى هذه الغاية النبيلة فاتورته باهظة جداً وسيدفعها الشعب الليبي بدماء أبنائه ومن قوته ويفتح الباب أمام كل الاحتمالات». وقال: «هناك مسؤولية أخلاقية على المجتمع الدولي تتمثّل في فرض السلم والأمن في ليبيا بعيداً من الأجندات والمصالح، ويجب أن يتم ذلك بأي شكل من الأشكال وفتح المجال للمساعدات الإنسانية وتحويل مسار التغيير إلى مسار سلمي وأن يُترك للشعب الليبي أن يختار النظام السياسي الذي يريد والحكومة التي يريد. هذا هو الذي يخدم مصلحة الشعب الليبي ويخدم مصلحة العالم أيضاً. لن يستطيع النظام أن يحسم القتال لمصلحته ولن يستطيع الثوار كذلك حسم القتال لمصلحتهم. هذا هو الواقع. إن استمرار القتال ليس لمصلحة أحد، وربما لن يؤدي إلى الوصول إلى الغايات النبيلة التي هي مطلب الشعب بليبيا موحدة وديموقراطية. إن ليبيا دولة لها إمكانات هائلة وموارد ضخمة مالية وجغرافية وتاريخية ويجب أن يتمتع شعبها بالحياة الحرة الكريمة التي يستحقها». ونفى بن قدارة أن يكون له دور في تقديم معلومات للدول الغربية كي تستخدمها في فرض عقوبات على المؤسسات المالية التابعة لنظام العقيد القذافي. وقال: «لا يمكن أن أكون طرفاً في عقوبات تُفرض على الشعب الليبي ويتضرر منها الشعب الليبي. من واجبي حماية أموال الشعب الليبي، وأنا بصفتي محافظاً سابقاً للمصرف المركزي أعرف أين هي أموال المصرف المركزي وكل دولار أو يورو أو استرليني لدى البنك في الخارج، وكذلك الأصول الأخرى وأين هي وما قيمتها. إنني أحتفظ بنسخ من هذه الوثائق وسأقدمها لمن يختاره الشعب الليبي محافظاً للمصرف المركزي كي يراجع كل هذه الأموال ويتأكد أنها لم تُمس». وتتولى مؤسستان ليبيتان مهمة استثمار الأصول المالية لدولة في الخارج، وهما المصرف المركزي والمؤسسة الليبية للاستثمار (وما يتبعها من مؤسسات). ويدير المصرف المركزي أصول سائلة وشبه سائلة تُقدّر قيمتها الدفترية بنحو 105 بلايين دولار، في حين أن المؤسسة الليبية للاستثمار أصولها بالقيمة الدفترية السائلة وغير السائلة في حدود 65 بليون دولار. ويؤكد بن قدارة أن «الاحتياطات التي تقع تحت إدارة المصرف المركزي تتم إدارتها وفق المعايير التي تُدار بها احتياطات المصارف المركزية، وهي في الغالب سندات حكومية أجنبية تمتاز بتصنيف ائتماني مرتفع... أو ودائع من مصارف لا يقل تصنيفها عن درجة الاستثمار». ويلفت إلى أن هناك «قواعد تحكم عمل إدارة احتياطات المصرف المركزي ساهم في وضعها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي». وهو ينفي تدخل العقيد القذافي وأبنائه في عمل المصرف المركزي، ويقول «لم يكن هناك تدخلات في ما يتعلق بإدارة أحوال المصرف المركزي، كما أن المعروف أن العقيد ليس لديه اهتمام بالموضوع المادي». لكن نفي بن قدارة لتدخل عائلة الزعيم الليبي في عمل المصرف المركزي لا ينطبق بالضرورة على عمل المؤسسة الليبية للاستثمار التي يقول معارضون إن بعض تعاملاتها كان يتم بناء على توجيهات تصدر أحياناً من أبناء العقيد القذافي. كما يشتبه معارضون في أن المؤسسة الوطنية للنفط كانت بدورها، كالمؤسسة الوطنية للاستثمار، محور ضغوط يمارسها أبناء الزعيم الليبي. وتتولى المؤسسة الوطنية للنفط تصدير النفط للشركات المستوردة وهو أمر يتم في الغالب بأسلوب الحوالات. وترد إيرادات النفط للمصرف الخارجي وتُقيّد حساباته لدى البنوك المراسلة من الخارج ومن ثم يقوم المصرف الخارجي بتقييد هذه الإيرادات لمصلحة مصرف ليبيا المركزي الذي يقيّدها في حساب الإيرادات بالنقد الأجنبي. ويوضح بن قدارة أن المصرف المركزي «يقيّد ما هو مخصص للإنفاق بالدينار الليبي بحسب الموازنة لحسابات وزارة المال، وفي نهاية العام يتم ترحيل الفائض إلى حساب جانبي تحت بند الاحتياطات». وسُئل بن قدارة كيف يمكن التأكد من أن عائدات توريد النفط يتم تسجيلها في شكل صحيح ولا تستولي عليها أطراف في الدولة الليبية، فأجاب: «المصرف المركزي يعرف فقط بالإيرادات التي يتم تحصيلها بالنقد الأجنبي، والتدقيق يحتاج إلى معرفة الكميات وأسعار البيع ومقارنتها بالإيرادات، وهذه مسؤولية تقع بين أمانة المالية ومؤسسة النفط، ولم يكن هناك تفاهم بين وزارة المالية ومؤسسة النفط». وقال بن قدارة إن العقوبات الدولية التي فرضتها الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي تؤثر في نظام العقيد القذافي. وأوضح: «لقد أثّرت العقوبات الدولية في شكل كبير جداً في النظام، ولكن أيضاً يعاني منها الشعب الليبي. وللأسف لم تفرّق هذه العقوبات بين الأمور الإنسانية مثل الغذاء والدواء وبين الأمور الأخرى». وكشف أن «قبل بداية الأزمة وقبل أن أستقيل من منصبي، اتصلت بوزارة الخزانة الأميركية من طريق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكذلك ببعض الأوروبيين، وطلبت منهم أن تسمح العقوبات للقطاع المصرفي الليبي بالحصول على النقد الأجنبي اللازم لاستيراد الاحتياجات الإنسانية مثل الغذاء والدواء - فليبيا تستورد كل حاجتها من الدواء من الخارج وغالبية الأغذية من الخارج أيضاً ولكن الدينار الليبي عملة غير قابلة للتحويل خارج ليبيا. وقد نبّهت إلى المشاكل والتداعيات التي ستنجم عن تجميد الأرصدة على الاقتصاد الليبي، ولكن للأسف لم يحصل أي تعاون بهذا الخصوص، على رغم أن وزارة الخزانة الأميركية وبعض الدول الأوروبية أبدت بعض المرونة في استجابة هذا الطلب. ولأنني منذ الأسبوع الأول من آذار لم أعد أمثّل المصرف المركزي، فقد أبلغت الرسالة في شكل شفوي، ولكن لم يحصل أي رد». وأقر بأن الأوضاع المالية صعبة في ليبيا حالياً، قائلاً: «لا شك في أن هناك ضغوطاً كبيرة ناجمة عن عدم توافر النقد الأجنبي على شكل سيولة». وقال بن قدارة إنه لا يستطيع تأكيد أو نفي التقارير التي تحدثت عن احتفاظ العقيد القذافي ببلايين الدولارات وبعملات أخرى ليبية وأجنبية على شكل سيولة نقدية كي يتمكن من استخدامها في حالات الطوارئ. وقال: «هذا ليس موجوداً في دفاتر المصرف المركزي أو خزائن المصرف المركزي، وفق معلوماتي. ولكنني قرأت في «نيويورك تايمز» عن ذلك، ولا أدري هل هو صحيح أم لا. لكنني لا أملك معلومات تؤكد ذلك». وسألته «الحياة» ألا يمكن أن يكون ذلك صحيحاً، فرد: «من الصعب استيراد كميات كبيرة من النقد الأجنبي وتخزينها. هذا الأمر يجب أن يكون بمعرفة البنوك التي باعت إلى ليبيا النقد الأجنبي، والبنوك التي تقوم ببيع النقد الأجنبي وبالتحديد الدولار لليبيا محدودة. صحيح أن البنك المركزي يشتري من هذه البنوك نقداً أجنبياً على شكل عمولة نقدية (cash)، ولكن هذا مسجّل في دفاتر المصرف المركزي ويستخدم للبيع إلى الجمهور من طريق المصارف التجارية وشركة الصرافة».