أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي حكماً بالسجن المؤبد على القائد العسكري السابق لصرب البوسنة راتكو ملاديتش، بعدما دانته بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب وضد الإنسانية، صُنِفت ضمن «الأبشع التي عرفها الجنس البشري». واعتبر نجل ملاديتش القرار «خاطئاً» وسيعرقل «الحياة الطبيعية في المنطقة»، متهماً المحكمة ب «التحيّز» إذ لم تدرس ملفات «جرائم» ارتكبها مسلمو البوسنة. لكن مفوضية الأممالمتحدة السامية لحقوق الإنسان رأت في الحكم «انتصاراً مهماً للعدالة»، و «إنذاراً لمرتكبي جرائم مشابهة» بأنهم «سيُحاسبون»، فيما دعت صربيا إلى «طيّ صفحة الماضي» و «التطلع نحو المستقبل». ووقفت نساء فقدن أزواجاً وأبناء وأقارب، وهنّ يبكين في الساحة أمام المحكمة حيث عُرضت صور 300 رجل قتلتهم قوات ملاديتش المعروف ب «جزار البلقان». لكن رئيسة جمعية أمهات سريبرينيتشا أعربت عن «رضا جزئي»، إذ أشارت إلى أن الحكم أكثر قسوة من ذاك الصادر على الزعيم السياسي لصرب البوسنة رادوفان كاراجيتش، وقضى بسجنه 40 سنة، مستدركة أن القضاة «لم يدينوا (ملاديتش) بالإبادة في قرى كثيرة». وكانت حرب البوسنة (1992- 1995) أدت إلى نزوح 2.2 مليون فرد وأوقعت أكثر من مئة ألف قتيل، بينهم 8 آلاف رجل وشاب في سريبرينيتشا، في ما اعتُبر أسوأ مجزرة تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. كما اتُهم ملاديتش بقيادة حملة «تطهير عرقي» في جزء من البوسنة، لإقامة دولة «صربيا الكبرى»، ولوحق لدوره في حصار ساراييفو الذي دام 44 شهراً، وقُتل خلاله 10 آلاف شخص، معظمهم مدنيون، ولاحتجاز مئتي جندي ومراقب تابعين للأمم المتحدة عام 1995. واعتُقل ملاديتش عام 2011 في منزل واحد من أفراد عائلته في صربيا، ونُقل إلى لاهاي. ولدى وصوله قاعة المحكمة، رفع ملاديتش إبهامه مبتسماً للمصورين، ثم رفض الوقوف عند دخول القضاة، وحيا عائلته، لا سيّما نجله داركو. وأُخرج ملاديتش (74 سنة) من قاعة المحكمة قبل دقائق من النطق بالحكم، بعدما صاح: «كل هذه أكاذيب، كلكم كاذبون، لست بخير». وكان القاضي رفض طلباً قدّمه الدفاع لتجميد الجلسة، نتيجة «ارتفاع ضغط الدم» لدى المتهم. وقضت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، بإدانة ملاديتش في 10 من 11 اتهاماً وُجِهت اليه، بينها ارتكاب إبادة في سريبرينيتشا وجرائم حرب وضد الإنسانية وبحصار سراييفو، لكنه بُرِئ من تهمة الإبادة في 6 قرى. وقال القاضي ألفونس أوري لدى تلاوته الحكم: «تحكم المحكمة على ملاديتش بالسجن المؤبد لارتكابه هذه الجرائم، والتي تُصنّف ضمن أبشع الجرائم التي عرفها الجنس البشري، وتضمنت إبادة جماعية والإبادة بوصفها جريمة في حق الإنسانية». وأضاف: «كثيرون من الرجال والصبية تعرّضوا لسباب وإهانة وتهديد وأُرغِموا على ترديد أغان صربية وضُربوا أثناء انتظار إعدامهم». واعتبر أن الظروف المخففة التي أشار اليها الدفاع، وبينها تراجع القدرة العقلية لموكله، «بلا وزن» في الحكم. أما المدعي العام للمحكمة سيرج براميرتز، فاعتبر أن الحكم «يبرّر» قرار مجلس الأمن عام 1993 لتأسيس المحكمة لمحاسبة مرتكبي الجرائم خلال حرب البلقان. وأضاف أن الحكم يشكّل «إنجازاً مهماً في تاريخ المحكمة وبالنسبة إلى القضاء الدولي، فملاديتش كان أول من وجّهت إليه هذه الهيئة اتهاماً، وهو آخر مَن دانته». لكن ملاديتش أكد أنه ليس مذنباً في كل الاتهامات، وأعلن فريق الدفاع عنه أنه سيستأنف الحكم، مرجّحاً «نجاحه». واعتبر محامو ملاديتش أن صرب البوسنة كانوا «ضحايا» لاستفتاء نُظم عام 1992، وأنهم خاضوا الحرب «دفاعاً عن النفس». وأكدوا أن ملاديتش غادر سريبرينيتشا قبل وقت وجيز من بدء المسلحين الصرب إعدام المسلمين، مشيرين إلى أنه «صُدِم» لدى معرفته بما حدث. وبعد إدانتها ملاديتش، وقبله كاراجيتش والرئيس الصربي الراحل سلوبودان ميلوسيفيتش، تغلق المحكمة أبوابها نهاية العام، بعدما دانت 161 شخصاً، بينهم 83 بجرائم حرب في البلقان. وحضّ رئيس الوزراء البوسني دنيس زفيزديتش «الذين لا يزالون يدعون إلى انقسامات ونزاعات جديدة»، الى «قراءة الحكم بعناية في حال لم يكونوا مستعدين لمواجهة ماضيهم». ودعا الرئيس الصربي ألكسندر فوسيتش مواطنيه إلى «التطلع نحو المستقبل» وإلى التفكير في «أولادنا والسلام والاستقرار في المنطقة». وقالت رئيسة الوزراء الصربية آنا برنابيتش: «علينا التطلع إلى المستقبل، بعدما ساد استقرار بلادنا أخيراً. علينا طيّ صفحة الماضي». ووصف مفوض الأممالمتحدة السامي لحقوق الإنسان الأمير زيد بن رعد الحسين، ملاديتش ب «رمز للشر»، معتبراً أن الحكم «نصر مهم للعدالة وإنذار لمرتكبي جرائم مشابهة، بأنهم لن يفلتوا من العدالة، أياً يكن نفوذهم ومهما طال الزمن. سيُحاسبون جميعاً».